اقتصاد سورية بين مؤتمرين.. رؤية حزب «الإرادة الشعبية» والعلاقة مع الواقع
يأتي المؤتمر العاشر لحزب الإرادة الشعبية– الأول بعد الترخيص- في هذا الوقت المفصلي من تاريخ الدولة السورية، بعد انقضاء عامين وثمانية أشهر تقريباً على الاجتماع الوطني التاسع للجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين، وهي الأساس الفعلي لحزب الإرادة الشعبية، وبين المؤتمرين لم تصمد سورية الدولة والمجتمع بوجه الكم الكبير من الثغرات والاختراقات ونقاط الضعف، ولم يكن وعي بعض القوى السياسية والوطنية (واللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين من بينها) كافياً لنقل رؤيتها وحلولها إلى ممارسة
وتحديداً في ظل تجمع الثغرات الاقتصادية – الاجتماعية بأذرعها اللاديمقراطية ونتائجها اللاوطنية.. وما كانت تشكله من حالة «صدمة» يعيشها المجتمع السوري، وتحديداً بعد انتقالها إلى مرحلة الليبرالية «الفجة» بانتقال قوى الفساد السورية إلى فرض علاقاتها الاقتصادية على دور الدولة ومحددات التوجه الاقتصادي الرئيسي، وبالنتيجة على تراجع قدرة الاقتصاد السوري على النمو والاكتفاء والاستقلال وأثر ذلك على طريقة توزيع الثروة المنتجة التي كانت تنزاح بتسارع نحو فئات محددة، دافعة معها فئات وشرائح واسعة نحو البطالة والتهميش والإفقار، وكل ذلك كان ينذر بأن الاستقرار الاجتماعي في سورية مهدد جدياً.. وهو ما حدث.
«إن عدم الأخذ بعين الاعتبار الضرورات الوطنية والاجتماعية سيهدد الاستقرار الاجتماعي، ما سيضعف الوحدة الوطنية، وبالتالي يضعف سورية في لعب دورها المطلوب منها في المنطقة»
يعود هذا التحذير إلى عام 2010 ضمن الموضوعات البرنامجية التي طرحت في الاجتماع الوطني التاسع للجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين التي تشكل منها حزب الإرادة الشعبية، وكذلك مجمل الاقتباسات الواردة في الملف أدناه...
من نموذج «استنفد» إلى «بديل مُستنفد» الفسـاد بدّل النماذج..
انتقلت سورية خلال عقود عديدة من السبعينيات إلى اليوم نقلات عديدة في تركيبة القوى الاقتصادية الأكثر تأثيراً على ساحة القرار السياسي الاقتصادي، إلا أنها شكلياً بقيت تحت عنوانين رئيسيين «اشتراكية» السبعينيات وحتى الألفية مع إعلان تبني «النموذج البديل» اقتصاد السوق «الاجتماعي».. وبينهما عقد التسعينيات الذي شهد انعطافات ليبرالية مهمة مهدت لعام 2005 والتبني السياسي لليبرالية كما جاء في المؤتمر القطري العاشر لحزب البعث..
نموذج غير «اشتراكي»
لا بد من نفي صفة الاشتراكية عن النموذج السابق، حيث إذا استخدمنا الملكية العامة كمؤشر وحيد فإن الملكية العامة كانت بتراجع مستمر بالمطلق، من حيث مساهمة الدولة كممثل للملكية العامة في الناتج الإجمالي، وما ينتج عن ذلك من تراجع مؤشر «عدالة التوزيع». بالمقابل خلال هذه الحقبة كانت التغيرات النوعية تتكيف مع مصادر الموارد الخارجية والريوع السياسية وصولاً إلى مرحلة الحصار الاقتصادي وظهور موارد النفط، إلا أن اتجاهاً واضحاً كان المسيطر وهو أن قوى في جهاز الدولة الكبير والمهيمن اقتصادياً وإدارياً في تلك المرحلة استفادت من تشوهات تفصيلية في طريقة إمساك جهاز الدولة بالمفاصل الرئيسية في حلقات الإنتاج والتوزيع وفي التجارة الخارجية، وساهمت بتعميق هذه الثغرات محولة دور الدولة التدخلي إلى مصدر كبير لموارد الفساد..
الفساد يغيّر النموذج
حجم هذه الموارد الكبيرة المنهوبة دفع هذه القوى الاقتصادية الطفيلية إلى مراكمة ثروات أصبح من غير الممكن توظيفها ومضاعفتها في ظل الشروط الاقتصادية السابقة التي يلعب فيها جهاز الدولة دوراً أساسياً.. ومصالح هؤلاء ومستوى سطوتهم وارتباطهم بمراكز القرار السياسي الاقتصادي كل هذا كان أحد الدوافع الموضوعية الرئيسية التي دفعت قوى الفساد إلى الاعتراف باستنفاد النموذج الاقتصادي السابق، والسعي لتبديله بالليبرالية.
«إن التيار الليبرالي- الاقتصادي قد استند في صعوده خلال العقد الحالي إلى موجة الليبرالية العالمية التي كانت في أوجها قبل الأزمة، وكذلك استند إلى ظاهرة استنفاد النموذج الاقتصادي السابق في سورية، بإحداثياته الملموسة لإمكانيات التطور اللاحق وحل المشاكل القائمة.»
«ولكن بعد مضي سنوات عديدة تأكد أن هذا النموذج الجديد عاقر من حيث المبدأ ولا قبل له بحل الإشكالات التي يعاني منها بحق الاقتصاد السوري. فوتائر النمو لم ترتفع عملياً وانخفض مستوى معيشة السكان ولم تتدفق الاستثمارات بالشكل الموعود.. ما وضع مسألة استبدال النموذج تحت المجهر من جديد. ولا تفيد هنا المكابرة والديماغوجية التي يقوم بها الليبراليون الاقتصاديون في الترويج لمحاسن نموذجهم الموعودة.. والتي على الناس الصبر لجني ثمارها، فهذه المعزوفة قد استخدمت سابقاً حين تم تنفيذ هذه النماذج بآلامها الفورية التي حملتها للمجتمع ولم يتم الخروج منها عملياً..»
أزمة الرأسمالية.. و«الاشتراكية هي الحل»
الأزمة الرأسمالية تفتح أفق الحل البديل.. إحدى الرؤى المركزية التي تستند عليها الحركة الماركسية عموماً ومن ضمنها الشيوعيون السوريون، الأزمة الرأسمالية بوصفها «أزمة عميقة متعلقة ببنية النظام الرأسمالي نفسه المنتج دائماً للأزمات. وهي يمكن أن تتحول إلى أزمة نهائية إذا توفر العامل الذاتي للتعامل مع الظروف الموضوعية التي تنضج باتجاه انهيار المنظومة الرأسمالية» كما جاء في الموضوعات البرنامجية الصادرة في الاجتماع الوطني التاسع للجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين والتي يستند إليها حزب الإرادة الشعبية في صياغته لنموذج اقتصادي بديل لسورية، ومفردة «بديل» تعبر حرفياً عن السعي نحو نفي مقومات الاقتصاد الرأسمالي والتي يمكن تبسيطها هنا باستبدال شعار « دع الأغنياء يغنون فهم قاطرة النمو» إلى شعار «النمو المحابي للفقراء» الذي يتلخص بتوليد نموذج اقتصادي قائم على ربط عضوي بين جانبين تحقيق أعلى نمو وأعمق عدالة اجتماعية..
إن الربط العضوي بين هذين الجانبين هو في جوهر نفي النموذج الرأسمالي والسعي نحو البديل الاشتراكي.. فأزمة الرأسمالية الحالية «ليست مؤقتة أو عابرة، وليست جزئية وموضعية، بل هي أزمة عميقة متعلقة ببنية النظام الرأسمالي نفسه المنتج دائماً للأزمات..»
اليوم وبعد مرور ثلاثة أعوام على هذا التقرير يتضح أن الأزمة الرأسمالية تتجه فعلاً نحو التعمق وتدخل الاقتصادات الرأسمالية الكبرى في دوامة من التراجع محددها الأساسي معدلات النمو حيث لا تزال توقعات النمو في الاقتصاديات المتقدمة لا تتجاوز 2%.
بينما تبدي الدول الصاعدة اقتصادياً ميلاً ً للخروج نحو منطق جديد في علاقاتها الاقتصادية خارج هيمنة قوى الرأسمال التقليدية في العقود الأخيرة، كما في تشكل كتلة البريكس وسعيها نحو فرض منظومتها النقدية والمالية المتكاملة والمستقلة نسبياً، وكذلك في دول أميركا اللاتينية، كتكتل الألبا على سبيل المثال، بالإضافة إلى ظهور الكثير من الدراسات والعمل الجاد باتجاه تعزيز علاقات جنوب-جنوب والاعتراف بجدواها بعد هيمنة «الشمال» على العلاقات التجارية الدولية، بالمقابل فإن الولايات المتحدة الأميركية بوصفها «قاطرة الريع الرأسمالي» تشهد تراجعاً في مستوى هيمنتها العسكرية والاقتصادية بعد أن استهلكت إلى حد بعيد أشكال العنف والهمجية الرأسمالية التي أتاحتها لها هيمنة الدولار كعملة دولية وهيمنة النيوليبرالية كنهج اقتصادي وهيمنة الآلة العسكرية الأميركية خلال عقود «أحادية القطب» بعد انهيار الاتحاد السوفييتي..
مجمل هذه الإشارات البسيطة هدفها توضيح مقولة «انسداد الأفق التاريخي نهائياً أمام النظام الرأسمالي، وانفتاح الأفق التاريخي واسعاً أمام الحركة الثورية العالمية بكل تنوعاتها وغناها على مدى القارات الخمس..»
« تتجه البشرية في مواجهة الرأسمالية إلى لحظة حساسة وخطيرة، فتناقضات الرأسمالية واشتدادها يدفعها إلى اللجوء إلى القوة داخلياً وخارجياً، ما سيفتح الأفق أمام البدائل الجديدة التي ستتضح معالمها أكثر فأكثر خلال المواجهة نفسها، فالبدائل لا تظهر وتأخذ مكانها في بدايات الأزمة كما علمتنا دروس التاريخ، بل في نهاياتها..»
قد يكون الحدث السوري ببعده الدولي أحد المفاصل التي تجلى فيها قدرة القوى الأخرى على عكس مجمل هذه المتغيرات البنيوية في الوزن الاقتصادي العالمي إلى معطى سياسي واضح المعالم بإيقاف «التغول» الأميركي واستخدام الآلة العسكرية الخارجية المباشرة لتدمير الدول وترسيخ مشروع التفتيت..
أما مهمة التقاط اللحظة التاريخية فهي مهمة القوى الوطنية والثورية الحقّة في الداخل السوري التي من المفترض أن تعي هذه المتغيرات وتضع برامج اقتصادية وطنية ثورية قائمة على السير نحو نفي المنطق الرأسمالي بجوهره الاستغلالي نظراً لاستنفاذه الموضوعي أولاً ولجملة المستحقات الوطنية الضرورية لخروج سورية من دوامة العنف التي تعيشها ومنع إعادة إنتاج الأزمة ثانياً..حزب الإرادة الشعبية (اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين سابقاً) كان القوة السياسية الوحيدة في الداخل السوري القادرة على صياغة رؤية ونموذج اقتصادي يشكل بديل جدي ويتجاوز النموذج الاقتصادي السوري منذ عقد السبعينيات وصولاً إلى النموذج الليبرالي منذ التسعينيات وحتى تبنيه الواضح في الألفية حتى اليوم..
نستعرض في ملف العدد الاقتصادي نقاطاً رئيسية من النموذج الاقتصادي البديل ونحاول أن نقرأها بعلاقتها مع مستحقات الأزمة الاقتصادية المترابطة مع الأزمة الوطنية الحالية، وكيف كان بالإمكان تجاوز تأثيراتها العميقة..