عن دوافع التصعيد الأمريكي في أمريكا اللاتينية
تشهد أمريكا اللاتينية في الأسابيع الأخيرة تصعيداً عسكريًاً وسياسياً غير مسبوق، يتركّز ظاهرياً على ذريعة مكافحة تهريب المخدرات، لكنه في جوهره يعكس محاولة أمريكية محمومة لإعادة فرض هيمنتها في منطقة باتت تُشكّل ساحة تنافس جيوسياسي متنامية. ورغم أن فنزويلا تتصدّر المشهد بوضوح، فإن قراءة التحركات الأمريكية بعمق، تُظهر أن كاراكاس ليست الغاية بحدّ ذاتها، بل الوسيلة الأقوى لاختبار حدود الممانعة، وإرسال إشارات إلى شركاء آخرين في المنطقة، أبرزهم الصين.
فنزويلا رمز لتحدي واشنطن
لا يمكن فهم حجم التصعيد الأمريكي ضد فنزويلا دون إدراك البُعد الرمزي العميق الذي تمثّله كاراكاس في الوعي السياسي لأمريكا اللاتينية. منذ عهد هوغو تشافيز، أصبحت فنزويلا رمزاً للتحدي الصريح للهيمنة الأمريكية، ومثالاً لقوى اليسار والسيادة الوطنية في القارة. ولذلك، فإن أي محاولة أمريكية لإضعاف أو إسقاط نظام مادورو لا تُقرأ فقط كعملية تغيير نظام، بل كمحاولة لتفكيك أحد أبرز مراكز المقاومة الرمزية في «الباحة الخلفية».
التحركات العسكرية الأخيرة شملت تحليق قاذفات استراتيجية قبالة الساحل الفنزويلي، وإعادة تفعيل قواعد عسكرية مهجورة، ونشر حاملة الطائرات «جيرالد فورد» في البحر الكاريبي، وهي لا تتناسب مع طبيعة تهديد «عصابات المخدرات»، بل تشي بحسابات استراتيجية أوسع. كما أن السماح لوكالة الاستخبارات المركزية بتنفيذ عمليات سرية داخل فنزويلا، وتنفيذ ضربات جوية لاستهداف قوارب الصيد، أدت إلى مقتل العشرات دون إفصاح عن هويات الضحايا، أو أدلة على ارتكابهم جرائم، يُشير إلى أن واشنطن تستغل ذريعة الأمن لاختبار قدرتها على فرض واقع جديد.
ردّ كاراكاس، من جهته، لم يكن تقليدياً. فدعوة مادورو للطبقة العاملة إلى «التعبئة العامة» تُجسّد استراتيجية دفاع شعبية لا تعتمد فقط على المؤسسة العسكرية، بل على تفعيل البُعد الاجتماعي كحاجز أمام أيّ تدخل خارجي، والذي يبدو مفهوماً في إطار التصعيد العسكري الذي تقوم به الولايات المتحدة عسكرياً، وإن قامت بعمليات عسكرية برية، فسيبقى الهدف هو دفع الأمور في البلاد نحو الفوضى والانقلاب على مادورو، لذلك يستند مادورو على الدعم الشعبي لتثبيت الاستقرار في فنزويلا.
تصعيد في الأرجنتين وكولومبيا أيضاً
في الأرجنتين، يتخذ التصعيد شكلاً مختلفاً، لكنه لا يقلّ أهمية. ففي ظل انهيار اقتصادي مزمن، تقدّم واشنطن حزمة مساعدات ضخمة (40 مليار دولار)، لكنها تُقيّدها بسقف سياسي واضح: تقليص
التعاون مع الصين، التي باتت شريكاً تجارياً محورياً لبوينس آيرس، ومستثمراً رئيسياً في قطاعات استراتيجية، مثل: الزراعة والتعدين.
أما في كولومبيا، فالتصعيد يحمل طابعاً عقابيًاً صريحاً. فبعد أن خرج الرئيس غوستافو بيترو عن الخط الأمريكي التقليدي بمشاركته في تظاهرة مؤيدة لفلسطين في نيويورك، ودعوته الجنود الأمريكيين إلى «عصيان أوامر ترامب»، وطرحه فكرة «جيش عالمي لتحرير فلسطين» جاء الرد الأمريكي سريعاً: وصفه بـ «زعيم المخدرات»، وقطع المساعدات، وإلغاء تأشيرته.
المفارقة أن واشنطن، التي دعمت كولومبيا لعقود في «حربها على المخدرات»، تستخدم اليوم نفس الذريعة لمعاقبتها، لأن رئيسها تجرّأ على اتخاذ مواقف سياسية مستقلة. وهذا يُظهر أن ملف المخدرات لم يعد معياراً موضوعياً للأمن، بل أداة مرنة تُستخدم لمعاقبة الحلفاء حين يخرجون عن السّياق المرسوم.
ما وراء التصعيد: معركة النفوذ في «النصف الغربي»
ما يجري في فنزويلا وكولومبيا والأرجنتين ليس سلسلة أحداث منفصلة، بل حلقات في معركة أوسع: معركة احتواء التمدد الجيوسياسي لقوى صاعدة، خصوصاً الصين، في منطقة طالما اعتبرتها الولايات المتحدة «مجال نفوذ حصري». فكلما زاد التعاون بين دول أمريكا اللاتينية والصين، سواء في التجارة، أو البنية التحتية، أو التكنولوجيا، زادت وتيرة التصعيد الأمريكي، تحت ذرائع متنوعة لكنها مترابطة.
فنزويلا، في هذا السياق، ليست الهدف النهائي، بل الاختبار الأصعب. فإذا نجحت واشنطن في كسر رمز الممانعة في كاراكاس، فقد ينفتح الباب أمام سلسلة من التغييرات في دول أخرى، تبدأ من كولومبيا وتنتهي بالبرازيل، التي تعد الجائزة الكبرى بسبب ثقلها الاقتصادي وعلاقاتها العميقة مع الصين ودول البريكس.
لكن المقاومة، سواء الشعبية في فنزويلا، أو السياسية في كولومبيا، أو حتى الحسابات الاقتصادية المعقدة في الأرجنتين، قد تُعقّد هذه المعادلة. ففي عالم لم تعد فيه الهيمنة أحادية، قد لا يكون كسر رمز كافياً لاستعادة السيطرة، خصوصاً إذا كان الرمز متجذراً في وعي شعبي لا يقبل بالوصاية، مهما كانت الذرائع.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1249
عتاب منصور