التوازنات الجديدة تحاصر واشنطن في آسيا الوسطى
في حدث غير مسبوق منذ سيطرة حركة طالبان على الحكم في أفغانستان، وبمشاركة رسمية أولى من حكومتها. شهدت موسكو في تشرين الأول 2025 اجتماع عشر دول في إطار «صيغة موسكو» للمشاورات حول أفغانستان، وخرج الاجتماع في بيانه الختامي برسالة سياسية واضحة: لا مكان لأي وجود عسكري أجنبي في أفغانستان، ولا عودة للقواعد الأمريكية تحت أي ذريعة.
شاركت أفغانستان للمرة الأولى كعضو رسمي في اجتماعات «صيغة موسكو» عبر وزير خارجيتها أمير خان متقي، خلال الدورة السابعة التي انعقدت في مدينة قازان الروسية في 8 تشرين الأول 2025. هذا الاجتماع، الذي ضم ممثلين رئاسيين ومسؤولين كبار من عشر دول آسيوية: روسيا والصين والهند وإيران وكازاخستان وقرغيزستان وباكستان وطاجيكستان وتركمانستان وأوزبكستان، جاء ليكرّس منطقاً جديداً في التعامل مع الملف الأفغاني، يقوم على التنسيق الإقليمي المباشر، دون وساطة أو وصاية غربية. وأكد المشاركون في البيان الختامي «دعمهم لتحول أفغانستان إلى دولة مستقلة وسلمية، خالية من الإرهاب والمخدرات» وأضاف: إن «محاولات الدول لنشر عناصر من بنيتها التحتية العسكرية في أفغانستان والدول المجاورة لها غير مقبولة».
الخطاب الأمريكي لم يعد مقنعاً!
في وقت سابق، أعادت واشنطن إنتاج خطاب الهيمنة لأهداف استراتيجية، معلنةً نيتها «استعادة» قاعدة باغرام الجوية في أفغانستان، من خلال تصريحات أطلقها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في أيلول الماضي أثناء مؤتمر صحفي مشترك مع رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، والتي جاءت لتؤكد أن منطق السيطرة لم يغادر العقل الأمني الأمريكي، إذ صرّح أنه «كان يجب أن نحتفظ بقاعدة باغرام»، واعتبر خسارتها في انسحاب 2021 «خطأً استراتيجياً كبيراً» وأشار إلى أنّها «تبعد ساعة واحدة عن المكان الذي تصنع فيه الصين أسلحتها النووية». ليعود ويهدد كابل لاحقاً بأنها «إذا لم تُعِد القاعدة» فإن «أموراً سيئة ستحدث».
هذا الخطاب، الذي يفضح تناقضاً صارخاً مع اتفاق «إحلال السلام» الموقع بين الولايات المتحدة وحركة طالبان عام 2020، والذي ينص على انسحاب جميع القوات الأجنبية من أفغانستان، أثار موجة رفض محلية وإقليمية واسعة، فعلى المستوى الشعبي، اعتبر الشارع الأفغاني التصريحات تهديداً مباشراً لاستقلال بلاده بعد عقدين من الحرب. أما على المستوى الرسمي، فقد وصف المتحدث باسم وزارة الداخلية الأفغانية تصريحات ترامب بأنها «مليئة بالكراهية والطموحات التوسعية». فيما رفض المتحدث الرسمي باسم طالبان، ذبيح الله مجاهد، بشكل حاسم الدعوة الأمريكية لاستعادة قاعدة باغرام مشدداً على أن «الأفغان لن يسمحوا أبداً بأن تسلَّم أرضهم لأي طرف تحت أي ظرف من الظروف».
اجتماع موسكو يرفض التدخل الأجنبي
على هامش الاجتماع، جاء لقاء وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بنظيره الأفغاني أمير خان متقي، ليعزز هذا التوجه، حيث أكد «رفض بلاده القاطع لنشر بنى تحتية عسكرية من دول ثالثة على أراضي أفغانستان، وكذلك على أراضي الدول المجاورة، تحت أي ذريعة كانت». مضيفاً، أن «الوجود القسري لأطراف خارجية قد يؤدي إلى زعزعة الاستقرار ونشوب صراعات جديدة». هذا التلاقي بين الموقفين الروسي والأفغاني يعكس تحوّلاً في طبيعة التحالفات الإقليمية، ويطرح تساؤلات حول مستقبل النفوذ الأمريكي في آسيا الوسطى، في ظل صعود قوى تسعى لإعادة تعريف مفاهيم «الاستقرار» و«السيادة» خارج الإطار الغربي.
في المحصلة، ما يحدث اليوم ليس مجرد رد فعل على تصريحات أمريكية، بل هو انعكاس لتحول جدّي في خارطة النفوذ الإقليمي. فبينما راهنت واشنطن على تفجير الداخل الأفغاني عقب انسحابها عام 2021، أثبتت أفغانستان بأنها ليست ساحة فراغ، بل نقطة ارتكاز لتحولات إقليمية عميقة. وتحركت دول الجوار بسرعة لتطويق الفوضى، ورسم معادلة جديدة تُقصي الهيمنة الغربية.
اليوم، تختبر واشنطن مدى قدرتها على فرض أجندتها وتغيير معادلة التوازن الناشئة، إلا أن واقعاً عملياً جديداً يحاصرها. واقعاً تدار فيه أفغانستان من داخل الإقليم لا من خارجه، ورغم ذلك تظهر مؤشرات خطرة لتفجير المنطقة، مثل: الاشتباكات بين أفغانستان وباكستان، لكن هذه المحاولات الأمريكية تواجه ممانعة كبيرة من تحالفات إقليمية، ترفض الابتزاز، وتؤسس لشكلٍ مختلفٍ لتسوية الخلافات، فتبدو كل محاولة أمريكية لاستعادة السيطرة، وكأنها تصطدم بجدار من الرفض الشعبي والسياسي، وتكشف عن أزمة بنيوية في مشروع الهيمنة ذاته. إن ما يتبلور اليوم ليس فقط رفضاً للوجود العسكري الأجنبي، بل هو إعلان عن نهاية مرحلة من التدخلات الأحادية، وبداية تشكّل نظام إقليمي جديد، أكثر استقلالاً، وأقل قابلية للابتزاز الغربي.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1247