حلقة جديدة من الإغلاق الحكومي الأمريكي
دخل الإغلاق الحكومي الأمريكي أسبوعه الثاني بعد الفشل على التوافق بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي في الكونغرس الأمريكي حول الميزانية السنوية، وخطة التمويل في الأول من شهر تشرين الأول الجاري، والتي تضمنت تمويلاً بقيمة 1.7 تريليون دولار، مما يسبب خسائر اقتصادية أسبوعية هائلة، فضلاً عن التداعيات السياسية والاجتماعية وحتى الدولية، كما يعكس هذا الإغلاق درجة الانقسام الحاد الجاري داخل أروقة واشنطن.
الإغلاق الحكومي وآثاره
وفقاً لمذكرة صادرة عن مجلس الاستشاريين الاقتصاديين في البيت الأبيض، فإن الخسائر الأسبوعية للإغلاق الحكومي الجاري تقدر بحوالي 15 مليار دولار من الناتج الإجمالي، كما أن تواصل الإغلاق لمدة شهر سيرفع عدد العاطلين عن العمل إلى 43 ألف، فضلاً عن الضرر الذي مسّ 1.9 مليون موظفين فيدراليين، باتوا إما معطلين مؤقتاً، أو يعملون بلا أجر.
ومن التداعيات الأولية لهذا الإغلاق، الضرر المتعلق بحركة المطارات الأمريكية، فوفقاً للتقارير تضاعفت نسبة غياب موظفي إدارة أمن النقل الجوي ومراقبي الحركة الجوية 3 مرات، وذلك باعتبارهم يعملون بلا أجر خلال الفترة الحالية.
وتشير المذكرة، أن الإغلاق سيلقي بآثاره المباشرة على النساء والأطفال والرضع بشكل خاص ممن يعتمدون على برامج الرعاية الخاصة الممولة فيدرالياً، وعلى المستفيدين من الرعاية الصحية والضمان الاجتماعي، وبعض البرامج التربوية التي تراجع وتمول فيدرالياً بشكل دوري.
ويرجح المحللون، أن تكلفة الإغلاق الحالي ستفوق تكلفة الإغلاق الحكومي السابق الذي جرى خلال ولاية ترامب الأولى في شهر كانون الأول 2018 واستمر 35 يوماً، مما أدى لخسائر بـ 11 مليار دولار.
كما قامت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بتجميد حوالي 28 مليار دولار من تمويل المدن والولايات الديمقراطية، ومنها: نيويورك وكاليفورنيا وايلينوي، كما تم تسريح عدد كبير من الموظفين الفيدراليين خلال الإغلاق الحكومي الجاري.
وفي هذا السياق، أمر ترامب بدفع مرتبات الجيش الأمريكي خلال الإغلاق، موجهاً وزير الحرب بيت هيجيسث بذلك، على حساب بعض أموال البحث العلمي، وقال ترامب: «لن أسمح للديمقراطيين باحتجاز جيشنا، وجعل أمن أمتنا بأكمله رهينة لإغلاقهم الحكومي الخطير».
الأسباب المباشرة للخلاف
تصاعد الخلاف بين الديمقراطيين والجمهوريين في الكونغرس الأمريكي حول الميزانية إثر مطالبة الديمقراطيين بتمديد فترة العمل لمخصصات الرعاية الصحية التي شارفت على انتهاء صلاحيتها القانونية، ويرى الديمقراطيين أن توقفها سيكبد ملايين الأمريكيين تكاليف عالية، بينما يرى الجمهوريون بقيادة ترامب، أن هذه الأموال تؤخذ من دافعي الضرائب الأمريكيين ويستفيد منها المهاجرون بالدرجة الأولى.
ولم يبدِ أي من الطرفين أي إشارة لحل أو تقارب وجهات النظر في الخلاف حول هذه النقطة، ورغم أن الجمهوريين يسيطرون على الأغلبية في مجلسي الكونغرس الأمريكي، إلا أنهم يحتاجون 60 صوتاً من أصل 100 لتمرير الموازنة، وينقصهم لذلك 7 أصوات من الديمقراطيين للتصديق في مجلس الشيوخ، إلا أنهم يظهرون تشدداً بذلك، وباتت تظهر خلافات داخل الديمقراطيين أنفسهم.
وخلف هذا العنوان العريض يتسابق كلا الطرفين لتعبئة الرأي العام الأمريكي لصالحه، كلّ مع قاعدته الجماهيرية، مما يدفع لمزيد من الاستقطاب الشعبي.
الأسباب الأوسع
إن الخلاف الجاري يمثل حلقة جديدة من مسلسل طويل تتعقد حبكته، وتتسارع أحداثه بشكل متصاعد، فهو يعكس تعبيراً جديداً للانقسام داخل النخبة الأمريكية حول كلٍّ من التوجهات السياسية الداخلية والخارجية على حدّ سواء، ويحتوي ضمناً صراعاً للسيطرة على الدولة الأمريكية وحكومتها الاتحادية، وحكومات ولاياتها ومؤسساتها، ونجد تعبيرات ذلك في التسريحات الكبيرة للموظفين الفيدراليين، وخاصة الديمقراطيين منهم، فضلاً عن محاولات استمالة الجيش الأمريكي بتبادل اتهامات تأخر صرف مرتباته، وغيرها من الأمور.
ويعود السبب الأعمق بذلك إلى الأزمة الاقتصادية الأمريكية التي تجلّت في أزمة 2008 ثم إغلاقات جائحة كورونا، والتسارع الجاري باتجاه انفجار أزمة جديدة قد تؤدي لاضطرابات كبرى وغير مسبوقة.
ويجري عادة تأجيل أو احتواء وتخفيف تداعيات الأزمة بطباعة المزيد من الدولارات في البنك الاحتياطي الفيدرالي، وإضافتها للدين الحكومي، لكن هذا الإجراء، وفي كل مرة، يدفع لمزيد من التضخم، ولرفع أسعار الفائدة، وتعميق أزمة الدين، مما يؤدي لمشكلة جديدة أكبر من سابقتها تؤثر على حياة الأمريكيين محدودي الدخل بالدرجة الأولى، وتؤدي لاضطراب الأسواق المالية، مما أدى ويؤدي بدوره بالمحصلة، إلى ميل عام، تجاه انخفاض الثقة بالاقتصاد الأمريكي وعملته سواء محلياً أو دولياً.
إثر ذلك، يتصاعد الانقسام والشقاق داخل النخبة الأمريكية بكيفية التعامل مع هذا الوضع بالسياسات الداخلية والأولويات الخارجية، وصولاً لأصغر التفاصيل، وبات يحد من قدرة الحزبين التقليديين على التوافق أكثر فأكثر، ويرفع من حدة الاستقطاب، ويتحول كل موضوع خلافي إلى مادة لممارسة ضغط سياسي واسع، وصولاً إلى عمليات الاغتيال السياسية التي باتت تشهدها الولايات المتحدة بشكل متواتر.
ما المتوقع الآن؟
لا يبدي الديمقراطيون استياءً من الإغلاق الحكومي الجاري، رغم تأثيراته السلبية على جمهورهم، خاصة المستفيدين من البرامج الممولة فيدرالياً في الصحة والتعليم، بل يبدو أنه موضوعٌ يجري الاستفادة منه لتعبئة الشارع لصالحهم.
في المقابل، لا يبدي الجمهوريون استياءً كذلك، محمّلين تشدد الديمقراطيين مسؤولية الإغلاق بفارق الأصوات الـ 7، ويعبئون جمهورهم بذلك، فضلاً عن قيام ترامب بتصفية خصومه الديمقراطيين من الحكومات الفيدرالية عبر تسريح الموظفين، وقيامه بتعديلات إدارية يجري وصفها بأنها من ضمن «مشروع 2025» الهادف لإعادة هيكلة المؤسسات والحكومات الفيدرالية بما يتوافق مع رؤية إدارة ترامب وسيطرتها عليها.
رغم ذلك، فإن هذا الإغلاق الحكومي ليس بصالح أي من الطرفين إذا ما استمر طويلاً، ولا يتعدى كونه سباقاً بين من سيقدم على التنازلات قبل الآخر، ومن سينتصر على الآخر بالمعركة السياسية أكثر منها ما يتعلق بالتمويل، وتدل المؤشرات على أن فرص إدارة ترامب أعلى بذلك، خاصة وأن تأثيرات الإغلاق تصب بصالح رؤيتهم بتقليص الإنفاق الحكومي عموماً، حتى وإن تعرضت البلاد لبعض الخسائر.
ما يمثل خطراً حقيقة، هو التأثيرات السياسية على الرأي العام، فزيادة الاستقطاب والتوترات الاجتماعية ضمنه، تنذر بانفجار اضطرابات أهلية واسعة، تتضمن احتمالاً بفقدان السيطرة على تفاعلاتها.. فهل سنرى نشراً لقوات «الجيش الوطني» مجدداً في الشوارع الأمريكية، أم سيُقدم أحد الطرفين على تقديم التنازلات تجنباً لمثل هكذا احتمال؟
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1247