رحلة ترامب من إنهاء الحرب الأوكرانية... إلى التورط فيها أكثر
وعد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خلال حملته الانتخابية بإنهاء الحرب الأوكرانية «خلال يوم واحد فقط»، ولكن بعد قرابة 6 أشهر من استلام إدارته للبيت الأبيض، وجد نفسه عالقاً بشبكة وعقدة المعركة، وبات يبدو أن الحرب الأوكرانية هي من ستنهي الولايات المتحدة وأوروبا.
يكاد لا يمضي يوم دون حدوث تطور جديد في الملف الأوكراني، وذلك بصرف النظر عن حجم هذا التطور، سواء ميدانياً أم سياسياً، والثابت، أن الميل العام لهذه التطورات يمضي لصالح موسكو باعتراف الغرب والمجتمع الدولي، ولكن ذلك لا يبدو أنه يدفعهم سوى إلى المزيد من إنكار الواقع وتجاهله، تجنباً للاعتراف بالهزيمة مع ما يتبعها من ارتدادات واستحقاقات، وتغيّرات كبرى تفرض نفسها.
التطورات العسكرية
عسكرياً، تتقدم القوات الروسية على كامل خطوط الجبهات بشكل ثابت، وبوتيرة متفاوتة، فخلال الأسبوع الماضي وحده تقدّمت بمساحة 72 ميل مربع (186 كم مربعاً)، وهو ضعف التقدم في الأسبوع الأسبق منه، بما يعنيه ذلك من خسائر أوكرانية مستمرة جغرافياً وعسكرياً وبشرياً، رغم الدعم العسكري الكبير من تمويل وتسليح وتكنولوجيا واستشارات تحظى بها من كافة دول «الناتو».
في نهاية الشهر الماضي، شنت القوات الأوكرانية هجمة جوية بالمسيّرات على مطار بوريسوغلوبسك العسكري في مقاطعة فورونيج الروسية، مستهدفة مستودعاً للقنابل وطائرات عسكرية.
ثم في اليوم التالي، الأول من شهر تموز الجاري، أوقفت الولايات المتحدة شحنات تسليح كبيرة كانت مخصصة لأوكرانيا، وكانت موجودة بالفعل في بولندا تمهيداً لتسليمها لكييف، تتضمن صواريخ لمنظومة الدفاع الجوي «باتريوت» وقذائف مدفعية، مما تسبب في ضغط شديد على إدارة زيلينسكي وداعميه الأوروبيين.
ورأى البعض، أن قرار إدارة ترامب جاء رداً على سلوك كييف الاستفزازي المتناقض مع مسار التسوية، لكن ذلك يبقى في إطار التكهنات، فهذا الموقف لا يعني بالضرورة أن ترامب يضغط باتجاه إنهاء الحرب فعلاً، ولكن الأكيد أنه يسعى للضغط على الأوروبيين لزيادة مساعداتهم، وتحمّل تبعات المعركة وحدهم تدريجياً، إذا ما كانوا يريدون الاستمرار بها.
وفي الثالث من تموز أُجريت جولة تبادل أسرى جديدة بين روسيا وأوكرانيا، بما يعنيه ذلك من استمرار الاتصالات بين الطرفين فيما يتعلق ببعض الجوانب الإنسانية.
ورداً على الهجمات الأوكرانية الأخيرة شنت القوات الروسية على مدى أسبوع هجمات جوية مكثفة بالمسيرات والصواريخ من بينها البالستية، على مواقع عسكرية عديدة ومواقع بنية تحتية للطاقة، وصلت ذروتها في الخامس من تموز – 550 مسيّرة وصاروخ في يوم واحد على كييف والمناطق الأوكرانية الغربية - حيث وصفتها وسائل الإعلام الغربية بأنها أكبر هجمة جوية على الإطلاق منذ بداية العملية العسكرية الروسية الخاصة، إلا أن هذا الوصف يبقى موضع تساؤل، خاصة وأنه يتعلق بالجانب الكمّي/العددي للهجوم، وربطه بسياق محدد بعد الاتصال الذي جرى بين ترامب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين مباشرة.. أي يبدو أنها محاولة أوروبية لاستفزاز إدارة ترامب و/أو التقليل من شأن الاتصالات التي تجري بين الرئيسين.
التطورات السياسية
أجرى ترامب في الرابع من الشهر الجاري اتصالين هاتفيين منفصلين مع نظيريه الأوكراني فولوديمير زيلينسكي والروسي فلاديمير بوتين.
الاتصال مع زيلينسكي جاء بعد وقف شحنة المساعدات العسكرية الأمريكية الأخيرة، ولم يصدر الكثير عن الاتصال سوى تأكيد زيلينسكي استعداده للعمل على حل الصراع دبلوماسياً، شرط وجود تعهدات بعلاقات مباشرة مع الناتو تضمن الأمن الأوكراني لاحقاً... أي، عملياً، استمرار نهج التشدد وعرقلة أي حل دبلوماسي وسياسي جاد، فالعملية العسكرية الروسية أطلقت أساساً لهذا السبب، ولتثبيت حياد أوكرانيا.
أما الاتصال بين ترامب وبوتين، فهو بحد ذاته، قبل أي نتائج، يُعد أمراً إيجابياً لتحسين العلاقات بين البلدين بعد قطيعة طويلة، وبطبيعة الحال فهناك قضايا خلافية كبرى وعميقة ينبغي خوض الكثير من الحوارات لحلها.
وفقاً لواشنطن وموسكو، استمر الاتصال 50 دقيقة، ناقش خلالها الرئيسان الملف الأوكراني بشكل رئيسي وملف الشرق الأوسط، دون إصدار تفصيلات حول طبيعة المسائل التي نوقشت، وما إذا جرت أي تفاهمات أو اتفاقات، إلا أن موقف واشنطن بعد الاتصال أوضح حالة عدم رضا من ترامب تجاه بوتين فيما يتعلق بإنهاء الحرب في أوكرانيا، لكن ذلك يبقى في الإطار الإعلامي الذي قد لا يعكس بالضرورة الوضع السياسي حقيقةً.
وفي الليلة نفسها، شنت القوات الروسية هجمتها الجوية التي وصفها الغربيون بالأكبر منذ بداية الحرب بعد الاتصال الهاتفي.. وهنا من الممكن وضع العديد من الاحتمالات والتفسيرات لهذا التوقيت، إلا أن أي منها يبقى بإطار الافتراضات المسبقة، فضلاً عمّا إذا كان هناك أي رابط بين الهجمة والاتصال من عدمه أساساً.
وفي أوروبا دعت الدنمارك في 3 تموز إلى تعليق حقوق هنغاريا في التصويت ضمن الاتحاد الأوروبي بسبب موقفها من روسيا، وعرقلتها لإصدار العديد من القرارات المتعلقة بها وبالمعركة الأوكرانية، من فرض عقوبات جديدة على روسيا إلى تمويل وتسليح أوكرانيا، ويعكس هذا الأمر درجة جديدة من الخلافات الأوروبية/ الأوروبية الحاصلة.. فاستمرار السلوك الهنغاري يتسبب بمشكلة للأوروبيين، وتعليق حقوق هنغاريا سيتسبب بمشكلة أكبر تتعلق بمدى ديمقراطية هذا الاتحاد وفائدته، إذا ما كان بالإمكان تجريد أي عضو من حقوقه؟ دون تناسٍ أن هنغاريا ليست الوحيدة صاحبة هذا الموقف، لكنها الوحيدة التي تقوم بهذا الدور المعلن بالنيابة عن غيرها من الدول، وذلك لعدم إظهار درجة الانقسام الحاصل داخل الاتحاد الأوروبي.
معضلة ترامب
إن مصلحة إدارة ترامب وتوجهاتها السياسية تسعى لإنهاء الحرب في أوكرانيا بالفعل، لكن شتْان بين النوايا والواقع الموضوعي، وشتّان بين فهم إدارة ترامب للمعركة وأسبابها، والموقف الروسي منها.
لكل من روسيا وأوروبا والولايات المتحدة رؤى وشروط مختلفة، فالنخبة الأوروبية لا يمكنها الاعتراف بالهزيمة أو قبولها، ذلك أنها وضعت مسألة استمرار وجودها على طاولة البحث مقابل استمرار وجود روسيا كدولة متحدة، أما بالنسبة لروسيا فإن أسباب المعركة لا تتعلق بالجانب الجغرافي والعسكري المباشر، وإنما الاستراتيجي المرتبط بالأمن القومي رداً على الموقف العدائي لأوروبا: حياد أوكرانياً تماماً وبشكل حاسم، بما يعنيه هزيمة الناتو.. أما مسألة المناطق الجغرافية المنضمة فتعدّ تحصيل حاصلٍ.
بالنسبة لإدارة ترامب، فإنها تسعى للخروج من هذه المعركة مع استمرار علاقات متوازنة بين روسيا وأوروبا من جهة، وعدم تعرض أوروبا لخسارة تنهيها من جهة أخرى، وهو ما لا يمكن تحقيقه، فالصراع الجاري ليس جولة أو معركة عابرة أخرى، بل يمكن القول: إنه يمثل المعركة الأخيرة الحاسمة، وأزمة إدارة ترامب تكمن بالضبط أنها غير قادرة على خوض هذه المعركة ضد روسيا بشكل كامل برفقة الأوروبيين، وغير قادرة بالتأكيد على التضحية بهم، ليس وفاء لهم، وإنما لعدم إعلان الانتصار الروسي وقبول الواقع الجديد.
ومن هذه الأزمة تتفاعل التناقضات والانقسامات الأمريكية بين: من يسعى لاستمرار الحرب، ومن سعى لوقف الحرب وفشل حتى الآن... لنشهد، ربما، ظهور تيارات جديدة أكثر جذرية بمواقفها فيما يتعلق بالسياسة الخارجية وبهذه المسألة تحديداً.. أو ستشهد الولايات المتحدة اضطرابات أكبر وأوسع مستقبلاً تهدد وحدتها ووجودها هي.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1233