هل سيكون مقترح رفع الإنفاق في «الناتو» بداية طريق تفككه؟
قدّم الأمين العام الجديد لحلف شمال الأطلسي، مارك روته اقتراحاً لزيادة الإنفاق الدفاعي من قبل دول الناتو، وذلك في ظل ضغط الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي يُطالب برفع الإنفاق إلى 5% كشرط واضح لمواصلة الالتزام الأمريكي بأمن أوروبا.
جاء اقتراح روته قُبيل انعقاد قمة حلف شمال الأطلسي المقررة في هولندا بين 24 و26 من شهر حزيران القادم في أجواء تتسم بالغموض وعدم اليقين في ظل الحديث الأمريكي عن إمكانية انهاء عملية تمويل الناتو أو تقليص الإنفاق، وجاء الاقتراح في خضم موجة نقاشات واسعة داخل أروقة الناتو، لزيادة الإنفاق الدفاعي إلى 3.5% من الناتج المحلي الإجمالي، و1.5% أخرى للإنفاق الأمني الواسع، حسب مقترح الأمين العام الجديد.
شروط إنشاء الحلف والزعامة الأمريكية للعالم
عند إنشاء حلف الناتو كتحالف عسكري وصيغة أمنية مكملة لمشروع مارشال للتعافي الاقتصادي وإعادة إعمار القارة الأوروبية، جاء موجهاً ضد الاتحاد السوفييتي، ولاحتواء الحركات الشيوعية في القارة الأوروبية، وكانت الولايات المتحدة هي الممول الأكبر للحلف. إذ تحمّلت الولايات المتحدة في الخمسينات وحتى الثمانينات ما بين 60% إلى 70% من النفقات العسكرية الإجمالية للحلف، وحصلت أمريكا بموجب هذا التمويل على صك اعتراف بها كقوة رئيسية في العالم، بالإضافة لامتيازات أخرى حصدتها بعد الحرب، منها: اعتبار الدولار عملة الاحتياط الرئيسة في العالم، والحلول مكان الاستعمار التقليدي القديم والسيطرة على مراكز نفوذه، مقابل نزول الاستعمار الأمريكي الحديث مكانه، تاريخياً بالنسبة لأي استثمار رأسمالي كانت العملية مربحة للأمريكيين. ورغم ازياد المساهمة الأوروبية في الناتو، إلا أنها بقيت أقل بكثير من المساهمة الأمريكية، فالنسبة للأوروبيين تم تسديد الثمن سياسياً واقتصادياً من خلال تنصيب الأمريكيين زعماءَ على العالم.
نقض الأمريكيين لروح تحالف الناتو
تعكس مطالب الأمريكيين في «تحمّل المسؤولية المشتركة عن الأمن» مسارين. الأول: أن الأمريكيين ينقضون وعودهم للقارة الأوروبية للأمن مقابل الزعامة. الثاني: يعكس ميلاً أمريكياً للتخلي عن الزعامة العالمية في ظل واقعية سياسية تنتجها أمريكا في استيعاب ميزان القوى الاقتصادي والسياسي والعسكري الناشئ عن انخفاض معدلات الإنتاج الحقيقي في أمريكا.
صراع الضرورات والامكانيات
في ظل علم الولايات المتحدة الأمريكية بعدم وجود إمكانية واقعية لرفع التمويل إلى 5% بالنسبة للناتج بالنسبة للشركاء الأوروبيين وكندا، إلا أنها تفرضه كشرط على المؤتمر القادم.
ورغم مرور عقد تقريباً على تحديد هدف إنفاق دفاعي بنسبة 2% من الناتج المحلي، لا تزال بعض الدول الأوروبية غير ملتزمة به. ووفق بيانات الناتو، فإن 22 فقط من أصل 32 دولة عضو في الحلف حققت هذا الهدف، بينما لا تزال دول مثل: إيطاليا، إسبانيا، بلجيكا، والبرتغال دون 1.5% أما دول خط المواجهة، مثل: بولندا ودول البلطيق فتتجاوز 2% بل وتقترب من 4%، كما هو الحال في بولندا.
تعاني الصناعة الدفاعية الأوروبية من قدرات إنتاجية محدودة وبيروقراطية معقدة، وتتنافس بدلاً من أن تتكامل، كما هو الحال في تكرار مشاريع الدبابات والطائرات. وهي عاجزة عن زيادة الإنتاج السريع للأسلحة والذخائر، وضعيفة في الإنفاق على البحث والتطوير العسكري مقارنةً بالولايات المتحدة أو حتى الصين. كما أن كثيراً من الصناعات تعتمد على مكونات مستوردة، ويزيد نقص المواد الخام والمعادن النادرة من الكلفة ويؤخر الإنتاج. ولا توجد إرادة سياسية أوروبية موحدة.
ضمن هذا الواقع تبقى القدرة الأوروبية على الوصول إلى 5% محل شك كبير، فاقتصادياً، من الصعب على معظم الدول الأوروبية رفع إنفاقها بـ 2-3% إضافية من ناتجها القومي دون تقليص برامج اجتماعية أو رفع الضرائب. وسياسياً، لن يمر بسهولة في برلمانات أوروبية تميل إلى النزعة السلمية. أما هيكلياً، فلن تتمكن الصناعات الدفاعية من امتصاص تلك الأموال بسرعة لتحولها لعتاد عسكري.
يمكن القول، بإن أوروبا ليست جاهزة حالياً للوصول إلى 3.5% ناهيك عن 5% وهي بحاجة إلى إصلاحات في الصناعات الدفاعية، وزيادة الاستثمارات المشتركة، وشراكات مع القطاع الخاص لتسريع الابتكار الدفاعي. إن مقترح مارك روته قابل للتسويق دبلوماسياً، لكنه غير قابل للتطبيق العملي الكامل في المدى القصير. لذلك، سيكون من الأجدى لأوروبا التوجه نحو كفاءة الإنفاق بدلاً من رفع نسب الإنفاق فقط.
الأوروبيين يحضرون أنفسهم لما بعد عصر الإنفاق الأمريكي
في ظل عدم واقعية المطالب الأمريكية التعجيزية في تحقيق نسب التمويل المرتفعة واستعداداً للقمة القادمة، أفادت عدة دول بالفعل بما تعتقد أنه سيناقشه المندوبون. ووفقا لقناة الجزيرة، تأمل المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا ودول الشمال الأوروبي في صياغة خطة متعددة السنوات لإدارة تخفيضات التمويل في حالة انسحاب الولايات المتحدة من الناتو. وبموجب هذه الخطة، ستساهم الدول الأوروبية بمزيد من التمويل للمنظمة، لأن الولايات المتحدة تساهم بنسبة 15٪ من ميزانية الدفاع اعتباراً من عام 2025. ووفقاً للمصدر ذاته، سيقترح الناتو خطة تطلب من أوروبا وكندا «تعزيز مخزوناتها من الأسلحة والمعدات بنسبة 30٪» وسيتم ذلك وسط حالة عدم اليقين الحالية بشأن الدور المستمر للولايات المتحدة في مساهمة الناتو.
إذاً، لن تقبل الولايات المتحدة بالبقاء كممول رئيسي بالناتو، ما قد يدفع الدول الأوروبية إلى البحث من جديد عن طريق أخر فما تقوم به أمريكا قد يدفع كثير من الدول الأوروبية للبحث عن اتفاقيات جماعية أو فردية مع روسيا والصين، فهذا التراجع الأمريكي قد يكون الفرصة الأخيرة للاوروبيين للبحث عن طريقهم الخاص.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1225