قراءة أولية في مفاوضات النووي الإيراني

قراءة أولية في مفاوضات النووي الإيراني

بعد أن توصلت طهران في 2015 إلى اتفاق حول برنامجها النووي، اختار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في ولايته الأولى الانسحاب من هذا الاتفاق، ورفض رفع العقوبات عن إيران، مما فرض على كل الأطراف الدوليين- وتحديداً في الكتلة الغربية- الانصياع، خوفاً من تعريض أنفسهم لخطر العقوبات الأمريكية، وبالرغم من أن الرئيس ترامب ظلّ يرى أن قراره كان صائباً لسنوات، عاد اليوم للعمل على صياغة اتفاق نووي جديد مع طهران، ما شكّل مادة دسمة للمحللين السياسيين الذين أخذ كلٌّ منهم البحث عن الزاوية الملائمة لفهم الخطوة الأمريكية، ويمكننا في هذا السياق الحديث عن تيارين أساسيين في هذا التحليل.

تقدّم أمريكي مزعوم

نقرأ في عددٍ من التحليلات حول المسألة، أن «إيران مُنيت بهزائم استراتيجية كبرى» وهي على هذا الأساس في موقع أضعف من ذلك الذي كانت تقف فيه لحظة توقيع الاتفاق في 2015، ويذهب أنصار هذه الفكرة للقول: إن الدافع الأساسي للرئيس ترامب لتجديد الحديث عن إمكانية عقد صفقة، يندرج في هذا الإطار، فبحسب هؤلاء، انتزعت إيران اتفاقاً لا يتماشى مع المصالح الأمريكية في حينه، وقدّمت واشنطن تنازلات «لا يمكن القبول بها»

أما اليوم، وبعد التطورات الأخيرة في الإقليم، وتحديداً تلك المرتبطة بالاعتداءات «الإسرائيلية» في فلسطين ولبنان واليمن وسقوط النظام السوري، فبات بإمكان الإدارة الأمريكية الحالية أن تفرض على إيران شروطاً جديدة من نمط تفكيك البرنامج النووي وإنهائه، أو على أقل تقدير إنهاء المشروع الوطني الإيراني في تخصيب اليورانيوم حتى في النسب المنخفضة المشروعة، وعلى هذا الأساس تكون إيران مُلزمة إن امتلكت محطات للطاقة النووية السلمية أن تحصل على الوقود اللازم لتشغيلها من أطراف دولية أخرى.

لكن هذا التحليل ودون الغوص في تفاصيله أظهر أنّه لا يستطيع الصمود أمام الواقع، وخصوصاً أن إيران دخلت المفاوضات بسقوف مرتفعة، بدأت من إعلان أنّها ليست متمسكة بالدخول بهذه المفاوضات، وأن توجيهات المرشد الإيراني تنص على ضرورة عدم الإفراط في التفاؤل، أو التشاؤم، ما يؤكد أن لدى طهران أوراقاً كثيرة يمكن طرحها على طاولة المفاوضات، ويُعد المخزون الكبير من اليورانيوم عالي التخصيب أبرزها.

الاتفاق حاجة لجميع الأطراف

التيار الثاني للتحليل يقول: إن لدى أطراف التفاوض حاجة للوصول إلى اتفاق، إذ يمكن أن يُقدّم للرئيس ترامب مكسباً قد لا يحصل عليه لاحقاً في ظل التراجع الأمريكي، ويُقدّم في الوقت نفسه لإيران متنفساً بسبب الضغط الخانق للعقوبات، التي باتت تؤثر بشكل ملحوظ على الأوضاع الاقتصادية داخل الجمهورية الإسلامية، ويستند هذا التحليل إلى مؤشرات ملموسة على مرونة أطراف التفاوض، والاستعداد لتقديم تنازلات متبادلة، بغية الوصول لاتفاق، وخصوصاً مع تصريحات أمريكية وإيرانية تؤكد أن الأجواء إيجابية، بالرغم من وجود اختلافات قائمة حتى اللحظة. ضمن طرح كهذا يمكن توقّع أن تحصل إيران على مكاسب جدّية تسمح لها في الحفاظ على البرنامج الوطني للتخصيب.

نظرة أشمل

إذا ما حاولنا تفسير ما يجري من دائرة أوسع، ينبغي أن ننطلق من مداخل أساسية، فالكيان الصهيوني ينظر بارتياب شديد لهذه المفاوضات، ويرى فيها تجاهلاً أمريكياً لوجهة النظر «الإسرائيلية» وظهر ذلك من خلال الأخبار المتعلقة بعدم وجود تنسيق أمريكي-«إسرائيلي» مسبق حول هذه المفاوضات، فبالرغم من أن الرئيس الأمريكي قال: إنّه لم يمنع «الإسرائيليين» من ضرب إيران، إلا أنّه أضاف، إنّه «جعل المسألة أصعب بالنسبة لهم» وأكّد أنّه مقتنع بإمكانية إبرام الاتفاق دون توجيه ضربة لإيران. ما يشير بوضوح إلا أن الخطوة الأمريكية جاءت بإطار معاكس لرغبة الكيان، وتأتي في سياق إعادة ترتيب يقوم بها الرئيس الأمريكي بما يتلاءم مع خطواته الانكفائية.

أما المدخل الثاني للمسألة، فيرتبط إلى حد كبير بالموقع السعودي المناقض تماماً لموقف المملكة السابق من هذه المفاوضات، إذ قال وزير الخارجية السعودي في 2015: إن «السعودية لا تسعى إلى مصالحة ولا تسوية بين إيران وأي جهة ترغب في التفاوض معها» أما اليوم، فتبدي الرياض حماساً كبيراً اتجاه إمكانية عقد الاتفاق، بل وتعلن رغبتها في أداء دور الوساطة بين الولايات المتحدة وإيران، ويأتي ذلك كسياق طبيعي لتطور العلاقات الثنائية بين البلدين وبشكلٍ متسارع.

ما الذي تغيّر

لا شك أن إيران اليوم في موقع مختلف عن ذلك الذي شغلته عام 2015 لكن النظر إلى الأحداث والتغيرات الإقليمية من زاوية أنّها «هزائم لإيران» لا يبدو دقيقاً، فإذا ما أعدنا سرد المشهد لا يمكننا إلا أن نقر أن استراتيجية إيران «وبعيداً عن تقييمها» كانت تنطلق من أن الولايات المتحدة في موقع هجوم، وتخلق واقعاً إقليمياً يضيّق الخناق على إيران، فمنذ عقدٍ مضى كانت إيران ترى كلّاً من تركيا والسعودية كأركان أساسية في المشروع الأمريكي، وبنت على هذا الأساس شبكة تأمل من خلالها مقاومة هذا المشروع، وحصار الكيان الصهيوني «أداته الأساسية» لكن المشروع الأمريكي تلقى خلال العقد المنصرم ضربات أكبر وأقسى من تلك التي تعرّضت لها إيران، فالقوى الإقليمية الأساسية «السعودية - تركيا» ترتبط مع طهران بعلاقات متنامية، وتعمل هذه الأطراف على تدوير الزوايا والبحث عن تفاهمات، حتى وصلت إيران لتكون طرفاً أساسياً في مجموعة أستانا الثلاثية إلى جانب تركيا وروسيا، والتي أظهرت أن مجال تنسيقها كان ينصب إلى حد كبير على إخراج الولايات المتحدة من المنطقة، ثم نجحت بكين في الوصول إلى اتفاق تاريخي بين الرياض وطهران، ونجح في تجاوز اختبارات خطيرة حتى اللحظة، وأعلن الطرفان مؤخراً أنّهما على وشك الدخول في فصل جديد من تطوير العلاقات، ولا يخفيان استعدادهما لبحث عقد اتفاق أمني مشترك.

وإذا ما نظرنا إلى الكيان الصهيوني، وبالرغم من حجم العدائية التي أظهرها خلال العام المنصرم، إلا أزمته الداخلية واضحة للعيان، ولا يمكن إخفاؤها ولا بد لهذه الأزمة أن تبدأ تفعل فعلها بشكل متزايد، وتحديداً في ظل السياسة الانكفائية الأمريكية.

في الواقع، يبدو أن استراتيجية إيران السابقة كانت ملائمة بنظر طهران لواقع جيوسياسي لم يعد موجوداً اليوم، وترى إيران أنّها قادرة على بناء تفاهمات مع القوى الإقليمية الأساسية، ما يمكن أن يحقق وحدة تاريخية في العالم الإسلامي من جهة، ويقوّض النشاط «الإسرائيلي» الذي بات يهدد الثالوث الإقليمي «السعودية - إيران - تركيا». من هذه الزاوية تبدو الخطوة الأمريكية أقرب لمحاولة التأثير على التغيرات الجارية، عبر محاولة الإمساك بما تبقى من الخيوط.

في الاتجاه ذاته، نرى أن إيران تسعى وبشكل معلن لإشراك السعودية بهذه المباحثات بشكل مباشر أو غير مباشر، فمن جهة كانت طهران أعلنت في أواسط العام المنصرم على لسان مساعد رئيس الجمهورية الإيراني ورئيس منظمة الطاقة النووية الايرانية، محمد إسلامي: إن إيران «مستعدة للتعاون مع دول المنطقة وخاصة السعودية بخصوص الاستخدامات السلمية للطاقة النووية»، وتجدد الحديث حول هذه المسألة على ضوء المفاوضات الحالية، إذ أعلنت طهران عن استعدادها لإشراك أطراف إقليمية في مراقبة برنامجها النووي.

هذه النقاط تشكّل مجتمعةً مؤشرات على أن قوى الإقليم ترى إمكانية حقيقية لتوسيع تفاهماتها البينية بعيداً عن الولايات المتحدة و«إسرائيل» وذلك ما يلبي مصالح هذه الدول مجتمعة، ويخلق أرضية لنمط مناقض تماماً لذلك الذي حاولت واشنطن فرضه على المنطقة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1224