كيف يريد الاتحاد الأوروبي أن يصبح لاعباً أساسياً في الصراع؟!
ديما النجار ديما النجار

كيف يريد الاتحاد الأوروبي أن يصبح لاعباً أساسياً في الصراع؟!

منذ مجيء ترامب إلى البيت الأبيض وبدء إعادة ترتيب الأوراق في العلاقات الدولية، توضحت إلى حد كبير الحجوم الحقيقية لكل من القوى الدولية والإقليمية بالملموس. فسارع الجميع إلى جرد حساباته، فالوزن الحقيقي الاقتصادي، السياسي والعسكري هو ما يُوضع على طاولة المفاوضات، ويحدد ما سيحظى به كل طرف في خضم «التحول الكبير».

لا زالت فرنسا وألمانيا تقودان الاتحاد الأوروبي منذ عقود، وتدركان اليوم أيضاً أنه من الأفضل لهما التحرك كاتحاد، وليس كدول منفردة، ليكون لهما حجم يذكر أمام عمالقة كالصين والولايات المتحدة (ويغضون الطرف عن مواقف الدول الأوروبية الأصغر إلى حين). على الصعيد السياسي، تقود الدولتان المفاوضات اليوم، مقدمة عرض تبعية ضمني نسبي ومشروط للولايات المتحدة، مبديتين الاستعداد لمواجهة روسيا وإضعافها لدرجة تجعلها غير قادرة على دعم الصين، ولسان حالهم يقول: «نعم لتحول تاريخي، ولكن مع تعظيم الحصة الأوروبية!». كان ماكرون قد وضح الحصة المبتغاة في خطابه الشهير في جامعة السوربون 2017 وبوجود المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل، وأبدى رؤيته لـ «السيادة الاستراتيجية» للاتحاد، وأكد أن تركيز السياسات الأوروبية يجب أن ينصب على حصتها في النفوذ في أفريقيا ودول المتوسط.

في الوقت نفسه، يحاول الاتحاد الأوروبي اليوم إقناع الولايات المتحدة بأن لا بأس من الاستمرار في علاقاته التجارية مع الصين، متذرعاً بالاستراتيجية نفسها التي استُخدمت أثناء الحرب الباردة، وهي ‹التغيير عبر التقارب التجاري›. فقد نجحت هذه الاستراتيجية في الماضي بجذب دول الكتلة الشرقية إلى شبكة الاقتصاد الغربي، واستُخدمت كأداة لتليين المواقف السياسية. لكنّ طرح هذه الفكرة اليوم من قِبَل الأوروبيين في تعاملهم مع الصين يبدو هشاً ومثيراً للسخرية. ويكفي لتأكيد ذلك مشهد وزيرة الخارجية الألمانية آنالينا بيربوك وهي تصل إلى بكين، فتلتفت حولها بعينين حائرتين دون أن تجد أيّ مسؤول صيني رفيع في استقبالها. لقد أصبح واضحاً مَن الذي وقع في فخ التقارب التجاري هذه المرة.

آفاق صناعات التسليح الأوروبية

أما على الصعيد الاقتصادي، فتسعى الشركات الأوروبية الكبرى لاحتواء تداعيات الأزمات المتلاحقة. وإذا كانت صناعة السيارات ـ القلب النابض للاقتصاد الأوروبي ـ هي الأكثر تضررًا من التحولات الجيوسياسية، فإنها تُسارع الآن لتحويل مواردها نحو صناعة التسلح، السوق الوحيدة التي تُظهر انتعاشاً في زمن الحروب. يبدو ذلك واضحاً من تطور مباحثات شركة راين ميتال، أكبر مصنعي الأسلحة في ألمانيا والفولكس فاغن، حيث أعلنت الأخير أنها قادرة على توفير مصدر للعمالة المحترفة ومواقع الإنتاج للأولى. لكن مثل هذه المشاريع تبقى محكومة بأطر زمنية طويلة بينما تسير الأزمة العالمية بوتير أسرع من قدرة أوروبا على التكيف. فلا المواجهة مع روسيا تسير لصالح الأوروبيين، ولا الانفكاك الأوروبي عن السوق الصيني يبدو سهلاً، ولا العلاقة مع الحليف الأمريكي تسير على ما يرام. فمع كل ما سبق، أين تقف أوروبا اليوم من هذا الصراع الدولي؟ وهل من مخارج؟

للإجابة عن هذا السؤال، قدّم ماريو دراغي، الرئيس السابق للبنك المركزي الأوروبي، تقريراً من 393 صفحة بعنوان «مستقبل التنافسية الأوروبية»، تناول فيه بالتفصيل ما يلزم تصحيحه في كل قطاع على حدة. وخلص دراغي إلى أن الاتحاد الأوروبي لا زال قادراً على المنافسة كلاعب كبير، بشرط تنفيذ خطة الإصلاح التي قدمها، والتي لا تحتاج، في نهاية المطاف، سوى إلى المال!!

وبحسب تقديراته، يتطلب الأمر إعادة هيكلة أجهزة الدولة لتوجيه إنفاقها نحو المعركة الدولية، وتوفير مبالغ ضخمة للاستثمار ـ نحو 800 مليار يورو سنوياً! فقط!! ـ كي يتمكن الاتحاد من حجز مكانه بين كبار اللاعبين على الساحة العالمية.

فبينما تهرب الاستثمارات اليوم من أوروبا لعدة أسباب، على رأسها استبدال الطاقة الروسية الرخيصة بالغاز والنفط الأمريكي عالي الكلفة، ونقص العمالة وارتفاع أسعارها. ما هي بدائل الاتحاد لتحصيل الموارد؟

من أين ستأتي الأموال؟

الحل الأول المطروح سيمر عبر دور متزايد للدولة. تدور النقاشات اليوم حول تحوّل براغماتي، من النيوليبرالية التي تفترض أن السوق قادر على تصحيح اختلالاته الذاتية دون تدخل، إلى كينزية جديدة تطالب الدولة بدور فاعل لتعويض نقص الطلب أثناء الأزمات عبر الاقتراض والاستثمار. وهكذا، يصبح دور الدولة، الذي يُعدّ مستهجناً في سرديات الاتحاد الأوروبي خارج أوقات الأزمات، مقبولاً بل وضرورياً حين يضرب الركود الاقتصادي. تتبدل السرديات الإعلامية فجأة، ويتحول تدخل الدولة في السوق من خطيئة إلى واجب، لتتوجه أموال الضرائب والتأمينات الاجتماعية للطبقات الدنيا، للاستخدام درعاً تمتص الصدمات لإنقاذ الشركات المترنحة على شفا الإفلاس.

أما الحل الثاني، كما تطرحه أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، فيعتمد على تعبئة المدخرات الخاصة غير المستثمرة، والتي تُقدَّر، وفقاً للاتحاد الأوروبي، بنحو 10 تريليون يورو، مودعة في حسابات مصرفية تقليدية عبر أنحاء القارة. فقد اقترحت أن يخلق الاتحاد حوافز تشجع المواطنين على استثمار مدخراتهم في أسواق رأس المال. وقد أثار هذا الاقتراح موجة احتجاجات واسعة على وسائل التواصل الاجتماعي، وسط مشاعر قلق عارمة بين الشرائح التي لا تملك سوى هذه المدخرات لمواجهة أيامها الصعبة.

سارعت الحكومات بدفع اقتصادييها وساستها لطمأنة الرأي العام، موضحة أن الأمر مجرد اقتراح لمصلحة المواطنين. ففي تبريرهم، الاستثمار في الأسواق يمنح العميل حرية وشفافية أكبر مقارنة بالحسابات البنكية التقليدية، التي لا تتيح معرفة أين تستثمر الأموال. إلا أن الواقع يبدو أكثر خطورة: فلو نجحت حملات الإقناع الإعلامي، فإن النتيجة ستكون كارثة اجتماعية مؤجلة. فما هذا إلا خصخصة لمخاطر الاستثمار في زمن تعصف به الحروب والأزمات والإفلاسات، حيث سيتحمل المواطن عديم الخبرة وحده الخسائر المحتملة، لأنه مارس «حريته» في اختيار وجهة استثماره، بدلاً من أن تتحمل البنوك كلفة أي انهيار.

من الواضح، أنه لا أموال نمو منتظرة، فقد توقع صندوق النقد الدولي مؤخراً للاقتصاد الألماني نمو 0% لهذا العام. مما يفتح الباب واسعاً أمام تساؤلات جدية حول الثمن الحقيقي الذي ستدفعه المجتمعات الأوروبية جراء الخطط الاستراتيجية الكبرى لساستها. فهل سيقلب النشاط المجتمعي خطط رؤوس الأموال رأساً على عقب؟.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1224