كيف تتعامل الصين مع الحرب التجارية الشاملة؟

كيف تتعامل الصين مع الحرب التجارية الشاملة؟

منذ أعلن الرئيس الأمريكي عن فرض رسوم جمركية مرتفعة على عدد كبير من دول العالم، بدأنا نشهد ردود فعل سريعة من المشمولين بهذه الرسوم، ولكن استراتيجية تلك الدول لا تزال غامضة إلى حد كبير، وخصوصاً أن الولايات المتحدة لم تكشف كل أوراقها بعد، ما يجعلنا أمام حرب تجارية عالمية شاملة، يحرص جميع اللاعبين فيها على ضبط سلوكهم وإخفاء نواياهم وخطواتهم اللاحقة، نظراً لحساسية اللحظة، لكن ما سبق لا يمنعنا من توضيح كيف تتعامل الصين مثلاً مع هذه الحرب التجارية.

قبل عرض ما نعرفه عن «الرد الصيني» ينبغي الإشارة إلى أن الدول المتضررة من الرسوم الجمركية وجدت نفسها في خندقٍ واحد، وهي أولى النتائج السلبية للخطوة الأمريكية، فالولايات المتحدة عملت منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية على ربط العالم الغربي تحديداً، عبر شبكة من علاقات المصلحة المتبادلة، والتي أدت دوراً لا يمكن إنكاره في رفع المؤشرات الاقتصادية ضمن التكتل الغربي، أي أن حشر هذه الدول في هذا التكتل لم يكن قائماً على الإكراه، بل كانت الدول الغربية مستفيدة من قواعد التجارة العالمية، ما دفعها لقبول الوضع السابق، حتى بالرغم من إدراكهم أن المنتفع الأكبر كان الولايات المتحدة، لكن ومع سلسلة الأزمات التي تعاني منها هذه الأخيرة، بدأنا نشهد ردود فعل موضوعية، عنوانها العريض: البحث عن المصالح، حتى وإن كانت بعيدة عن الولايات المتحدة.

فن التفاوض!

الحقيقة الأولى التي بدت واضحة لجميع اللاعبين، هي أن واشنطن منفتحة للتفاوض، وقد تكون الخطوة الأولى محاولة لرفع سقوفها في التفاوض مع الأطراف الأخرى، وهو ما دفع هذه الدول للتريث قبل عقد اتفاقات ثنائية، فالقاعدة العامة تقول: إن أي صفقة تعقدها الولايات المتحدة مع أي طرف، يمكن أن تتحول إلى مؤشر لمدى استعداد واشنطن لتقديم تنازلات، وعلى هذا الأساس ترى الدول التي لا تملك أوراق ضغط كثيرة، أن فرصتها في الوصول إلى صفقة جيدة تتطلب التريث قليلاً، وانتظار النتائج الأولى للاشتباك الصيني الأمريكي بوصفهما اللاعبين الأكبر في هذه الحرب.

ومع أن الضربة الأمريكية الأولى كانت قاسية، إلا أن الصين بدلاً من أن تسارع لعقد اتفاق، أعلنت استعدادها للقتال حتى النهاية، وذلك بحسب المتحدث باسم الخارجية الصينية لين جيان الذي أضاف في حديثه لوكالات الأنباء يوم 8 نيسان الجاري: إن «الرسوم الجمركية الأمريكية نموذج مثالي على الأحادية والحمائية والطغيان الاقتصادي».

على هذا الأساس، وبدلاً من الخوض في المفاوضات، أخذت الصين إجراءات شاملة في وجه الخطوة الأمريكية، ورأينا في الأيام التالية للإعلان الأمريكي جولات متتالية من رفع متبادل للرسوم وصلت الرسوم الصينية على البضائع الأمريكية إلى 125% في مقابل 145% من الرسوم على البضائع الصينية، وتهدد الإدارة الأمريكية أن الرسوم يمكن أن تصل إلى 245% إذا لم تتراجع الصين، وهذا ما لم نر مؤشرات عليه حتى اللحظة.

في هذا السياق، تدرك بكين أن الولايات المتحدة لا تستهدف التجارة فحسب، بل تحاول استخدام الرسوم كأداة للضغط والابتزاز، وعلى هذا الأساس لا تتعامل مع الخطوة الأمريكية على أنّها أحادية الجانب، بل تسعى الصين لتوجيه ضربات في مجالات متعددة، وبشكلٍ متزامن، وهذا بالتحديد ما نحاول عرضه في هذه المادة، ففضلاً عن الرسوم الجمركية الجوابية يمكننا حصر ما نعرفه من الإجراءات الأخرى التي قد تكون أكثر إيلاماً للولايات المتحدة.

سوق محلية واعدة

إن آثار الرسوم الجمركية على البضائع الصينية ستؤدي بطبيعة الحال إلى انخفاض في قدرة الصين على تصدير إنتاجها إلى الولايات المتحدة، وفي المقابل تؤثر الرسوم الصينية على البضائع الأمريكية على كل السلع التي تستوردها الصين، والتي تدخل في العملية الإنتاجية، لكن ما يميز الصين عن غيرها من البلدان، هو أن السوق المحلي هو المستهلك الأكبر للانتاج الصيني، ففي حين كانت السوق المحلية تستهلك 49% من الإنتاج الصيني في عام 2010 وصلت النسبة في 2023 إلى ما يقارب 56% ، مع الإشارة إلى أن المنحنى العام يتجه إلى الصعود، وهو ما يمكن تفسيره إلى حد كبير بارتفاع القدرة الشرائية للصينيين بشكل هائل، إذْ كانت حصة الفرد من الناتج الإجمالي تقارب 5 آلاف دولار في 2015 ومن المتوقع أن تصل في 2025 إلى 12,7 ألف دولار! ما يعني أن الصين تعمل على استراتيجية «التوجه للداخل» ما يمكن أن يقلل الآثار المترتبة على الاضطرابات في التجارة العالمية.

وعلى الرغم من حصة السوق الداخلية من الإنتاج الصيني تظل حصة الخارج كبيرة، لكن نسبة الولايات المتحدة بالتحديد تشهد إنخفاضاً ملموساً، فبعد أن وصلت في سنوات سابقة إلى 20% من حجم الصادرات الصينية إلى الخارج، لا تتجاوز النسبة اليوم 12%، أي إن حصانة الصين ضد تقلبات السوق الأمريكية أصبحت أكبر، وإذا ما أخذنا التقلبات الكبرى التي تشهدها أسواق التجارة العالمية اليوم، فمن البديهي الاستنتاج أن الصين ستجد شركاء جدد لشراء هذه البضائع.

بعضٌ من الإجراءات الأخرى

رأينا خطوات صينية في ميدان حساس، وهو عناصر الأرض النادرة، إذ فرضت الصين في نيسان الجاري تقييداً على تصدير سبعة عناصر نادرة، والتي تعد أساسية في تصنيع أنظمة عسكرية أمريكية، مثل: مقاتلات F-35 والغواصات والأسلحة الذكية، وتدخل أيضاً في صناعة السيارات الكهربائية، بل إن أحد الخبراء يقول: إن «معادن الأرض النادرة تدخل في تصنيع كل ما يمكن تشغيله أو إطفاؤه من أجهزة» ويمكن فهم المأزق الأمريكي أكثر إذا ما علمنا أن الصين تنتج اليوم أكثر من 60% من هذه المعادن، وتقوم بتنقية 92% من إجمالي الإنتاج العالمي، ما يجعلها مهيمنة بدرجة كبيرة على هذا الإنتاج وبيعه.

من جانب آخر، تملك الصين ورقة أخرى مؤثرة وهي ما يعادل 760 مليار دولار من سندات الخزينة الأمريكية، وهناك مؤشرات على أن الصين بدأت تطرح جزءاً من هذه السندات في السوق، منذ أن أعلن ترامب عن فرض الرسوم الجمركية، ولكن بكين تعمل بحذرٍ شديد، نظراً لأن أي عرض كبير لهذه السندات في الأسواق، سيؤدي حتماً إلى انخفاض سعرها، ما يعني خسارة لجزء من قيمة السندات التي تملكها، ومع ذلك رصد المختصون عدداً من المؤشرات تؤكد قيام الصين بطرح سندات في الأسواق، والتي سيتضح حجمها قريباً، لكن ما ينبغي ذكره في هذا السياق، أن الصين ليست صاحبة الحصة الأكبر من هذه السندات كما كانت سابقاً، فبعد أن وصلت قيمة السندات التي تملكها بكين عند عتبة 1.32 ألف مليار عام 2013 تخلصت بكين خلال عشرة أعوام من 560 مليار تقريباً، واستثمرت هذه الأموال بأصول أخرى، مثل: الذهب أو عملات احتياطية أخرى، وتملك اليابان اليوم الحصة الأكبر من سندات الخزينة الأمريكية.

حصر كامل الإجراءات الصينية مسألة صعبة، لكنها تشمل أيضاً مجالات أخرى عديدة، منها مثلاً: تقييد وصول أفلام هوليوود إلى السوق الصينية، والتي يصعب حساب آثار ذلك على صناعة السينما الأمريكية، لكننا نعرف أن الصين تملك اليوم ما يقارب 100 ألف شاشة عرض أفلام، وتشكل السوق الصينية حوالي 25% من إجمالي السوق العالمي، وبالرغم من أن الإنتاج السينمائي الصيني يهيمن إلى حد كبير على السوق المحلية، إلا أن 17% من إيرادات الأفلام الأمريكية في عام 2023 جاءت من الصين.

الصين اليوم أمام فرصة تاريخية، إذ بإمكانها قلب السحر على الساحر، فمراقبة الإجراءات الجوابية الصينية تؤكد أن الصين لم تتفاجأ من الخطوة الأمريكية، بل تعمل بوتيرة ثابتة منذ سنوات طويلة على تقليل تأثرها من خطوات كهذه، وذلك نظراً لوجود قناعة في الصين أن المواجهة قائمة، وينبغي عليهم الاستعداد لها، ويمكننا القول: إن التطورات الجارية منذ إعلان ترامب عن الرسوم تسرّع إلى درجة كبيرة اتجاه عالمي موضوعي تُبنى فيه شراكات جديدة بعيداً عن الهيمنة الأمريكية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1223