الاستراتيجية الجديدة للسياسة الخارجية الروسية... تثبيتُ نظام عالمي جديد

الاستراتيجية الجديدة للسياسة الخارجية الروسية... تثبيتُ نظام عالمي جديد

أقرت روسيا في الـ 31 من آذار الماضي استراتيجيتها الجديدة للسياسة الخارجية، والتي جاءت في وثيقة من 42 صفحة تحتوي 76 نقطة رئيسية، وتُشكل مسألة التغيّرات الدولية وموازين القوى الجديدة عصبها الرئيس، ترسم ملامح مستقبل السياسات الدولية، وتشكل نقلة جديدة أكثر تقدماً بالسياسة الروسية.

نذكر هنا بعضاً من نقاطها الأساسية التي نرى أن عرضها ومناقشتها ذو أهمية خاصة فيما يتعلق بمتابعة وتحليل المتغيرات الدولية الجارية والمقبلة، لا فيما يتعلق بروسيا بعينها، وإنما بوصفها قوة دولية كبرى تساهم في قيادة هذا التغيير.

رؤية عامة

بعد مجموعة نقاط الأحكام العامة المتعلقة بالوثيقة وعملها، يبدأ السرد العملي للإستراتيجية الجديدة من النقطة السابعة، والتي جاء في أول جزء منها مباشرةً: «تمرّ البشرية بحقبة من التغيير الثوري» لتعطي هذه الجملة الافتتاحية صورة أولية عن مضمون الاستراتيجية الجديدة، وجاء في النقطة نفسها «إن نموذج عدم التوازن في التنمية العالمية، والذي كفل على مدى قرون نمواً اقتصادياً فائقاً للقوى الاستعمارية، عبر الاستيلاء على موارد الدول والمناطق التابعة في آسيا وإفريقيا والعالم الغربي، بات شيئاً من الماضي لا رجوع فيه». لتؤكد الفقرة الأولى بذلك، أن حقبة التغيير الثوري التي تمر بها البشرية قد اجتازت شوطاً أولياً بالفعل، يتمثل بالتغيرات الدولية التي جرت خلال العقد الماضي على أقل تقدير، والتي حدّت من نفوذ وهيمنة القوى المستعمرة والإمبريالية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية.
يتبع في النقطة التالية «رغم ذلك، فإن التغييرات المستمرة والإيجابية عموماً، تواجه الرفض من عدد من الدول التي اعتادت التفكير وفقاً لمنطق الهيمنة العالمية والاستعمار الجديد» وهو ما اعتادت وكررت قاسيون على ذكره ومناقشته منذ أكثر من عقد، بأن التغيّرات الدولية الجديدة تصحبها سياسات جديدة مختلفة كلياً عن سياسات موازين القوى السابقة، القائمة على عقلية ومبادئ الهيمنة والتبعية، مما يفرض على كافة القوى السياسية التكيّف مع الوقائع الجديدة، أو الموت برفقة السياسات القديمة. وتتابع «إنهم يرفضون الاعتراف بحقيقة وجود عالم متعدد الأقطاب [...] وبذلك يرفضون الاتفاق على معايير ومبادئ النظام العالمي [الجديد]. تُبذل محاولات لتقييد حركة التاريخ الطبيعية، والقضاء على المنافسين بالأشكال العسكرية السياسية والاقتصادية. يتم استخدام مجموعة واسعة من الأدوات والأساليب غير القانونية، بما فيها الإجراءات القسرية (العقوبات) التي تتجاوز مجلس الأمن في الأمم المتحدة، وإثارة الانقلابات والصراعات المسلحة والتهديد والابتزاز والتلاعب بوعي بعض الدول والفئات الاجتماعية. [...] بات الأمر الشائع للتدخل في الشؤون الداخلية للدول الداخلية ذات السيادة هو فرض إيديولوجيا نيو ليبرالية مدمرة».
وتتابع النقاط 9 و10 و11 للحديث بنفس الرؤية العمومية على التوالي: دور الأمم المتحدة، والأزمة الاقتصادية، واستخدام القوى العسكرية، وفي الفقرة الأخيرة 17 من القسم الثاني للوثيقة تؤكد: «رداً على السلوكيات غير الودية للغرب، تسعى روسيا للدفاع عن حقّها في الوجود والتنمية الحرة بكافة الوسائل الممكنة».

مهام عامة

تشير الوثيقة إلى أن «تحقيق الأهداف الاستراتيجية للسياسة الخارجية للاتحاد الروسي» سيجري «من خلال أداء المهام الرئيسية التالية». أولاً: «تشكيل نظام عالمي عادل ومستدام»، ثانياً: «الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، والاستقرار الاستراتيجي، وضمان التعايش السلمي، والتنمية التدريجية للدول والشعوب» وتتابع النقاط التالية بالحديث والتأكيد في سياقات وجوانب مختلفة على التعاون السلمي والدبلوماسي في إطار التنمية، وحل المشاكل والنزاعات وإقامة علاقات الصداقة مع الدول المختلفة.
ويوضح القسم الرابع رؤية روسيا لكيفية تشكيل هذا النظام العالمي، حيث تتضمن النقطة الـ 18 مجموعة من البنود أهم ما فيها: التأكيد على «المساواة بين الدول، واحترام حقها في اختيار نموذج التنمية، ونظامها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي» وهو ما يقف على النقيض من عقلية الهيمنة الغربية وموازين القوى السابقة عبر فرض «الديمقراطية الأمريكية» والـ «النيوليبرالية» كنموذج وحيد، ويجري التأكيد في بنود لاحقة على «رفض الهيمنة في العلاقات الدولية» و«التعاون القائم على توازن المصالح والمنفعة المتبادلة» و«عدم التدخل في الشؤون الداخلية» و«سيادة القانون الدولي بتنظيم العلاقات الدولية» ...الخ.
ويأتي ذكر الولايات المتحدة الأول في البند الأول من النقطة الـ 19 بالقسم نفسه: «القضاء على ما تبقى من هيمنة الولايات المتحدة وغيرها من الدول غير الصديقة في القضايا العالمية، وتهيئة الظروف للحد من طموحات الهيمنة الاستعمارية الجديدة لأية دولة»، وفي البند الثالث، يجري التطرق للأمم المتحدة عبر «استعادة دور الأمم المتحدة كآلية تنسيق مركزية لتنسيق مصالح الدول الأعضاء في الأمم المتحدة».

الأمم المتحدة ودورها

تؤكد الوثيقة مراراً وبمواضع مختلفة على الأمم المتحدة ودورها المركزي في تنسيق العلاقات، وحل الخلافات والنزاعات، والتنمية وغيره، فتذكر في النقطة 22 «يجب أن تستند آلية تشكيل القواعد القانونية الدولية إلى الإرادة الحرة للدول ذات السيادة، وعلى الأمم المتحدة أن تبقى المنصة الرئيسية لتطوير القانون الدولي»، وتتكون النقطة 23 من عدة بنود، تؤكد- في سياقات مختلفة تتعلق بالقانون الدولي والتنمية والعقوبات- على الرجوع إلى ميثاق الأمم المتحدة، وفي النقطة 5 تحديداً يذكر «تحسين آلية تطبيق العقوبات الدولية على أساس الاختصاص الحصري لمجلس الأمن الدولي لإدخال مثل هذه الإجراءات، وضمان فعاليتها فيما يتعلق بالحفاظ على السلم والأمن الدوليين».
التأكيد المستمر على دور الأمم المتحدة، سواء في هذه الوثيقة الجديدة، أو غيرها من الوثائق والمواقف، يوضح توافق الممارسة العملية مع السياسات الدولية الجديدة، فروسيا، فضلاً عن الصين أو الهند وغيرهم كقوى دولية مستمرة بصعودها، لا تسعى ولا مصلحة لأي منها باتخاذ دور دولي بديل عن الأمم المتحدة أو يتجاوزها، كالحالة الأمريكية في الموازين السابقة، والتي اتسمت بوصفها «شرطي العالم» سواء عبر هيمنتها على الأمم المتحدة أو بتجاوز قوانينها.

1116-13

الاستقرار الاستراتيجي والتهديدات البيولوجية

تشتمل النقطة 27 على مجموعة من البنود المتعلقة بالاستقرار الاستراتيجي، منها: «الردع الاستراتيجي ، ومنع تفاقم العلاقات بين الدول إلى مستوى قادر على إثارة النزاعات العسكرية، بما في ذلك استخدام الأسلحة النووية وأنواع أخرى من أسلحة الدمار الشامل» و«تعزيز وتطوير نظام المعاهدات الدولية في مجالات الاستقرار الاستراتيجي، وتحديد الأسلحة، ومنع انتشار أسلحة الدمار الشامل»، و«منع سباق التسلح واستبعاد نقله إلى بيئات جديدة، وتهيئة الظروف لمزيد من التخفيض التدريجي للإمكانات النووية» و«الحد من الأسلحة التقليدية، ومكافحة الاتجار غير المشروع بالأسلحة الصغيرة والأسلحة الخفيفة».
وتؤكد النقطة 29 على «منع ظهور التهديدات البيولوجية وضمان السلامة البيولوجية» بثلاثة بنود: «التحقيق في قضايا تطوير ونشر واستخدام أسلحة بيولوجية وسامّة، خاصة في أراضي الدول المجاورة» بإشارة إلى أوكرانيا، و«منع الأعمال الإرهابية و/ أو التخريبية المرتكبة باستخدام مسببات الأمراض الخطيرة والقضاء على عواقب هذه الأعمال» بإشارة إلى فيروس كورونا، و«توسيع التعاون مع الحلفاء والشركاء في مجال ضمان الأمن البيولوجي ، وبشكل أساسي مع الدول الأعضاء في منظمة معاهدة الأمن الجماعي، والدول الأعضاء في رابطة الدول المستقلة».

التعاون الاقتصادي عالمياً

في الجانب الاقتصادي، تتكون النقطة الـ 39 من 8 بنود، أهم ما فيها: «تكييف التجارة العالمية والنظم النقدية والمالية مع واقع العالم متعدد الأقطاب، ونتائج أزمة العولمة الاقتصادية، وذلك في المقام الأول لصالح الحد من قدرة الدول غير الصديقة على إساءة استخدام مركزها الاحتكاري، أو المهيمن في أماكن معينة من الاقتصاد العالمي، وتوسيع مشاركة الدول النامية في الحوكمة الاقتصادية العالمية» و«الحد من اعتماد الاقتصاد الروسي على الأعمال العدائية للدول الأجنبية، وذلك في المقام الأول من خلال تطوير بنية تحتية دولية آمنة وغير مسيسة للدفع، ومستقلة عن الدول المعادية وتوسيع ممارسة استخدام العملات الوطنية في التسويات مع الحلفاء والشركاء.
تقليل الاعتماد الروسي على المسائل العدائية للدول الأجنبية، وذلك في المقام الأول عبر تطوير بنية تحتية دولية آمنة، وغير مسيسة للمدفوعات مستقلة عن الدول المعادية، وتوسيع استخدام العملات الوطنية في التسويات مع الحلفاء والشركاء».

العلاقات مع الدول المختلفة

تتحدث النقاط من 49 وحتى 65 عن سياسة روسيا الخارجية تجاه دول مختلفة من العالم، منها خصيصاً الصين والهند وأوروبا والولايات المتحدة، ومناطق مختلفة كأوراسيا وإفريقيا وآسيا والمحيط الهادئ وأمريكا اللاتينية والعالم الإسلامي.
فيما يتعلق بالصين: «تهدف روسيا إلى زيادة تعزيز الشراكة الشاملة والتعاون الاستراتيجي مع جمهورية الصين الشعبية، وتعطي الأولوية لتطوير التعاون المفيد للطرفين في جميع المجالات». والهند: «ستواصل روسيا بناء شراكة إستراتيجية مميزة بشكل خاص مع جمهورية الهند، من أجل رفع المستوى وتوسيع التفاعل في جميع المجالات على أساس المنفعة المتبادلة، وإيلاء اهتمام خاص لزيادة حجم التجارة الثنائية والاستثمار والتكنولوجيا».
أوراسيا: «تسعى روسيا جاهدة إلى تحويل أوراسيا إلى فضاء واحد يشمل جميع القارات للسلام والاستقرار والثقة المتبادلة والتنمية والازدهار» وهذه النقطة تحتوي عدة بنود تؤكد دور منظمة شانغهاي، والشراكة الأوروبية الآسيوية الكبرى، ورابطة دول جنوب شرق آسيا، وتعزيز الترابط الاقتصادي والنقل في منطقة أوراسيا سواء براً عبر السكك الحديد، أو بحراً، وتخصص نقطة للتأكيد على حل الوضع في أفغانستان.
المنطقة الأوروبية: تؤكد النقطة 59 أن معظم الدول الأوروبية تنتهج سياسة عدوانية تجاه روسيا، وتتضمن 3 بنود للحديث حول الأمر، تتعلق بالحد من هذه التهديدات، و«تشكيل نموذج جديد للتعايش مع الدول الأوروبية، والذي سيضمن التنمية الآمنة والسيادة والتدريجية لروسيا وحلفائها وشركائها، والسلام الدائم في الجزء الأوروبي من أوراسيا».
الولايات المتحدة والدول الأنغلوساكسونية: «الاتحاد الروسي مهتم بالحفاظ على التكافؤ الاستراتيجي والتعايش السلمي مع الولايات المتحدة، وإقامة توازن في المصالح بين روسيا والولايات المتحدة، مع مراعاة مركزهما كقوتين نوويتين رئيسيتين، ووجود مسؤولية خاصة عن الاستقرار الاستراتيجي، وحالة الأمن الدولي بشكل عام. إن آفاق تشكيل مثل هذا النموذج للعلاقات الروسية الأمريكية تعتمد على درجة استعداد الولايات المتحدة للتخلي عن سياسة الهيمنة العنيفة» و«يعتزم الاتحاد الروسي إقامة علاقات مع الدول الأنجلوسكسونية الأخرى، حسب درجة استعدادها للتخلي عن مسار غير ودي تجاه روسيا واحترام مصالحها المشروعة».
تشكل هذه الوثيقة نقلة نوعية جديدة بالسياسة الروسية، وهي إن لم تكن مفاجئة بالنسبة للبعض، فإن اعتماد هذه السياسات بالشكل «الرسمي» الآن يعني التمهيد لتحولات عملية وملموسة قادمة، سواء على الصعيد الدولي، أو في الداخل الروسي.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1116
آخر تعديل على الخميس, 13 نيسان/أبريل 2023 11:52