في «الكيان»… تعديلات القضاء مجمدة والأزمة قائمة
جاء إعلان نتنياهو عن تجميد خطة التعديلات القضائية بعد الاضطرابات التي هزت الكيان الصهيوني، في محاولة لتهدئة الأوضاع، وتخفيف الضغوط الداخلية والخارجية عن الحكومة التي بدأت تهتز هي الأخرى، ويترافق هذا مع بَدْء جلسات للحوار بين الفرق السياسية المنقسمة برعاية الرئيس إسحاق هرتسوغ. فهل يمكن أن يمهد كل هذا لهدوء حقيقي فعلاً؟
تحوّلت الأجواء الملتهبة في الكيان إلى حدثٍ بارز في الإقليم، وخصوصاً بعد أن أصبح الخلاف الأمريكي/الصهيوني واضحاً ومعلناً، في وقتٍ كهذا تُقدّمُ عشرات التحليلات يومياً في محاولة لتفسير ما يجري والتنبؤ في اتجاهات تطوراته اللاحقة، لكن الخطوة الضرورية الأولى تبقى في تقديم توصيف موضوعي للمشهد الحالي.
«مجمدة» حتى اللحظة
أعلن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في 27 من شهر آذار الماضي عن تجميد خطة التعديلات القضائية لا إلغاءها، وهو ما يعني أن شرارة الاضرابات الأخيرة لا تزال تفعل فعلها، حتى وإن خَفَت تأثيرها على المشهد مؤقتاً. نتنياهو برّر خطوته هذه بوصفها محاولة «لتجنب الانقسام»، لكن هذا التأجيل جاء مترافقاً مع خطوات أخرى، فرئيس الوزراء كان مضطراً لتقديم تنازل للصهيوني إيتمار بن غفير، شريكه في الائتلاف الحكومي، الذي أعلن قبوله للتأجيل مقابل موافقة نتنياهو على جعل «الحرس الوطني» الجديد تحت سلطة وزارة الأمن القومي التي يتولاها، وهو ما سيتحول إلى عامل ضغط جديد، فـ «الحرس الوطني» الذي يجري الحديث عنه- عدّ من إحدى الزوايا- محاولة جانبية جديدة للالتفاف على سلطة القضاء، فحسب تأكيدات عضو حزب الليكود أيوب قرا، يعود سبب إنشاء هذا الحرس إلى «انعدام الثقة لدى عناصر الشرطة والجيش بعد تدخل القضاء في مهامهم والقوانين التي يعدّونها ضد الجندي والشرطي»، وأضاف الضابط السابق في جيش الاحتلال: إن «الحرس الوطني» سيكون موازياً للجيش والشرطة «الإسرائيلية»، وسيتكون من «مجموعةٍ من الفرق الخاصة للسيطرة على أماكن حساسة، يصعب على الشرطة والجيش السيطرة عليها». لذلك سيكون تحويل هذه الفكرة إلى واقع فعلي على الأرض- إلى جانب تكاليفها الكبيرة التي قدرتها وسائل الإعلام الصهيونية بـ 9 مليارات شيكل- خطوة خطرة قادرة على نقل الانقسام السياسي الحالي إلى مواجهة دامية بين قِوَى مسلحة صهيونية تعمل على الأرض في قطاعات متداخلة، وتتبع في الوقت نفسه لمصالح واعتبارات سياسية متناقضة.
تسريبات في لحظات حساسة
بالتوازي مع ما سبق، تجاوب فريق نتنياهو مع دعوات هرتسوغ المشار إليها، وانعقدت أولى جلسات الحوار مع المعارضة بهدف إيجاد حل مرضٍ للأزمة الحالية، لكن، ورغم التأكيد على الأجواء الإيجابية التي سادت في الجلسة الأولى، تبقى احتمالات توتر جديد قائمة، ولا سيما بعد أن سرّبت وسائل الإعلام محادثة من هاتف وزير القضاء ياريف ليفين، الذي عدّ عرّاب التعديلات القضائية، إذ عرضت القناة 12 أن محادثة وزير القضاء تؤكد نيّة الحكومة إعادة طرح الخطة في الدورة التشريعية القادمة، وتوعد ليفين- حسب التسريبات المعارضة- بتحركات في كافة المناطق دعماً للتعديلات، وهو ما جاء بمثابة دليل بيد المعارضة للتشكيك في جديّة نتنياهو في الوصول إلى اتفاق متوازن مع خصومه. ولا بد أنه سيترك ظلالاً ثقيلة على أية جلسات حوارية قادمة.
خصومة عابرة أم ماذا؟
الصورة داخل الكيان لن تكتمل إلا مع توضيح حجم الخلاف مع الولايات المتحدة الأمريكية، فبعد أن حملت الشهور الماضية إشارات رسمية خجولة، بدأت الأمور تأخذ منحىً أوضح مؤخراً، وخصوصاً بعد انتقادات الرئيس الأمريكي العلنية للتعديلات القضائية، وهو ما دفع نتنياهو ليقول: إن «إسرائيل دولة ذات سيادة تتخذ قراراتها بإرادة شعبها، وليس على أساس ضغوط من الخارج بما في ذلك من أفضل الأصدقاء». وجاءت تصريحات وزير الأمن القومي في السياق ذاته، لكن بجرعة تحريضية أعلى، إذ قال بن غفير: «إن على الولايات المتحدة أن تفهم أن إسرائيل دولة مستقلة وليست مجرد نجمة أخرى على العلم الأمريكي».
الخلاف التاريخي، غير المسبوق، الذي نشهده اليوم يجري تقديمه بشكلٍ مبسط، فالمعارضة داخل الكيان تحمّل نتنياهو المسؤولية، الذي تصفه بأنه «خطأ استراتيجي»، وفي المقلب الآخر تبدو الصورة متشابهة، فقد بات أي تطور في الساحة العالمية موضوعاً يغذي الانقسام الأمريكي، فخصوم إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، يحمّلونه مسؤولية التطورات الخطيرة، ويرون في تصريحاته تدخلاً في الشؤون الداخلية لـ «إسرائيل»، في الوقت الذي لا يقرّ أياً من هؤلاء أن الخلاف بين الإثنين لا يُردّ إلى «خطة الإصلاح القضائي»! بل تحركه أسباب أعمق وأقدم.
نتنياهو والتعديلات القضائية
لا يمكن التقليل من دوافع نتنياهو الذاتية للتمسك بالتغييرات القضائية، وخصوصاً أنه يواجه اتهامات بالفساد. لكن إطار تبني هذا المشروع يشمل قوى سياسية واسعة أخرى، ويعتبر استجابة موضوعية لأزمة حكم شاملة عانى منها الكيان، وتعمقت بشدة خلال السنوات الماضية، فعجز القوى السياسية المتكرر في الحصول على الأغلبية داخل الكنيست كان مؤشراً على اضطرابات قادمة، وخصوصاً بعد أن دخلت كافة القوى في دائرة مغلقة، وأصبحت مضطرة لتشكيل ائتلافات غير معتادة، اتسمت بعدم الاستقرار، نظراً لطبيعة قواها المتباينة والضغوط المتزايدة على الكيان. ولذلك يعتبر تعديل صلاحيات القضاء في جوهره محاولة لتغيير النظام السياسي في «إسرائيل» وهي الخطوة التي ترى مجموعة واسعة من القوى السياسية أنها مخرج محتمل من أزمة وجودية يعيشها الكيان. لذلك لن يكون إبعاد نتنياهو عن الواجهة كافياً لطي هذه الصفحة التي ستبقى في جوهرها حاضرة في المشهد وتفعل فعلها.
الأولويات تختلف
ومن جهة ثانية، لا يغيب عن أحد أن أولويات الكيان الصهيوني وداعمه الأساسي لم تعد متطابقة، فبالرغم من أن الفوضى في المنطقة لا تزال مطلوبة أمريكياً، إلا أن حجم الأزمة الصهيونية يتطلب انخراطاً أمريكياً أكبر مما يمكن أن تسمح به التوازنات الدولية الحالية، وخصوصاً أن واشنطن أصبحت مضطرة لحشد قواها الأساسية في ساحات صراع أخرى، وهو ما يدفعها للجم المحاولات الصهيونية في إعادة توجيه الأمور. وهنا يبرز مجدداً أن الحكومة الحالية ليست المسبب الحقيقي والوحيد لأزمة العلاقات مع الولايات المتحدة، فجميع القوى السياسية في الكيان تدرك أن أولويات واشنطن تتبدل بسرعة، حتى اللحظة لا تظهر إمكانية للتوفيق بين مصالح الطرفين، وسيبقى الوضع على ما هو عليه حتى وإن سقطت حكومة نتنياهو، التي تفقد الأغلبية حسب استطلاعات الرأي الجديدة. فإذا اتجهت الأمور إلى انتخابات جديدة، واستطاعت القوى السياسية تشكيل حكومة جديدة، ستجد الأخيرة نفسها في المأزق ذاته، وستبقى المشكلة حاضرة حتى وإن أدارتها بشكلٍ مختلف.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1116