تطورات الحركة الاحتجاجية في المملكة المتحدة وفرنسا

تطورات الحركة الاحتجاجية في المملكة المتحدة وفرنسا

برزت الحركة العمالية في كل من المملكة المتحدة وفرنسا خلال الأسبوع الماضي بإضرابات واسعة النطاق في كلٍّ منهما، وفي المملكة المتحدة تحديداً، لم تشهد البلاد هكذا تنظيم للإضراب من حيث عدد المشاركين، وتعدد القطاعات منذ قرابة 30 عاماً، فما الأسباب والتطورات التي أوصلت الحركات العمالية في هذين البلدين إلى التصعيد لهذا المستوى، وما مستقبل هذا الأمر؟

في الأول من شهر شباط الجاري، نفذ قرابة نصف مليون مدرس وسائق قطارات ومحاضرين جامعيين وموظفين حكوميين وممرضين إضراباً عاماً في المملكة المتحدة، وتسبب ذلك باضطرابات عدة في البلاد، من إغلاق المدارس وتوقف أغلبية خدمات السكك الحديدية، فضلاً عن الخروج بتظاهرات عدة في العاصمة لندن. وفي الوقت نفسه قامت 8 نقابات مختلفة للعمال بفرنسا بإضراب كبير شارك به مئات الآلاف، أدى إلى تعطيل المدارس والنقل العام ومصافي النفط فضلاً، كذلك الخروج باحتجاجات واسعة في البلاد.

الأوضاع في بريطانيا

ترجع الأسباب الداخلية المباشرة التي أوصلت نقابات العمال لتنفيذ أكبر إضراب منذ 30 عاماً بدءاً من خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي كأول نقطة علام واضحة التأثير على الظروف الاقتصادية والمعاشية، حيث خسرت المملكة المتحدة بسببه السوق الخارجي والتصدير إليه تدريجياً، ويوضح ذلك تقرير عن مركز أبحاث السياسات الاقتصادية في تموز 2022 حيث يُظهر الانخفاض الكبير في صادرات السلع والخدمات من المملكة المتحدة إلى أوروبا، بالإضافة إلى ارتفاع أسعار السلع المستوردة إليها من أوروبا، ويشير عدد من المحللين البريطانيين إلى أن «بريكزت» قد أدى إلى عزل المملكة المتحدة، ودفعها إلى نوع من الاقتصاد الريعي القائم على الخدمات عوضاً عن الصناعة والابتكار، وبذلك تزايدت حالة عدم المساواة الاقتصادية- الاجتماعية داخل البلاد، على حساب النمو الاقتصادي وتراجعه.
بالتوازي مع إجراءات «بريكزت» وتطوراتها خلال السنين الماضية، تفاقمت الأزمة الاقتصادية العالمية، وحصلت جائحة كوفيد-19 مع إغلاقاتها، والأزمة الأوكرانية، والعقوبات على روسيا التي أدت إلى أزمة طاقة في عموم أوروبا.
نتيجة لذلك كله وبتفصيلاته الكثيرة، وصلت نسبة التضخم في المملكة المتحدة إلى 11.1%، آخذين بعين الاعتبار أن هذه النسبة المعلنة رسمياً، والتي يجري حسابها بطريقة محددة لا تعكس واقع السوق بالضرورة، ورغم ذلك لم ترتفع أجور العمال في البلاد إلا بنسبة 5% بأفضل الأحوال بالنسبة لبعض القطاعات، بينما غيرها ارتفعت بنسبة 2 إلى 3% فقط كعمال الخدمة المدنية، أما عمال الخدمة الصحية الوطنية فقد حصلوا على زيادة 1400 جنيه إسترليني بغض النظر عن مستوى أجورهم، وآخرين لم ترتفع أساساً، مما يعني تدهوراً بالأجور وزيادة بأسعار السلع داخلياً، فضلاً عن ارتفاع أسعار الطاقة الكبير.
وخلال هذه التطورات، وما قبلها، لم تتمكن أية من الحكومات البريطانية المتعاقبة من تقديم أية حلول، منذ حكومة ديفيد كاميرون إلى ريشي سوناك، مروراً بتيريزا ماي وبوريس جونسون وليز تراس، وعوضاً عن ذلك فاقمت سياسات الحكومات المتعاقبة من الأزمات الاقتصادية والمعاشية داخلياً، فكاميرون قلّص من تمويل العديد من القطاعات الحيوية في البلاد، وأبرزها الخدمة الصحية الوطنية، وجونسون تميّز ببريكزت، وليز تراس بخطة إعفاءاتها الضريبية السابقة التي لم تكن لتؤدي إلا لتضخم أعلى، والآن حكومة ريشي سوناك، التي لم يتبق أمامها أية حيل شكلية لتقديمها، وقررت مواجهة الإضرابات عبر إدانتها ودعم تشريعات جديدة قد تؤدي للحد من حق العمال في الإضراب إذا ما أقرّها البرلمان.

في فرنسا

كانت شرارة انطلاق الإضرابات والاحتجاجات الفرنسية الأخيرة رفع سن التقاعد الرسمي في البلاد من 62 إلى 64 عاماً، بمشاركة أكثر من مليون شخص في اليوم الأول منها، بتنظيم من 8 نقابات مختلفة منها: الاتحاد الديمقراطي الفرنسي للعمل، والاتحاد العام للعمال، والاتحاد النقابي الموحد، ورغم أهمية مواجهة هذا القرار، إلا أن الأسباب الأخرى خلفه تتعلق بما يشابه بريطانيا: ارتفاع بنسبة التضخم دون ارتفاع مناسب للأجور، وارتفاع كبير بأسعار الطاقة، مما يعني تدهوراً بالأوضاع الاقتصادية والمعاشية للفرنسيين، وحكومة غير قادرة على تقديم أية حلول، ولا خيار أمامها سوى مواجهة الإضرابات والاحتجاجات بالقمع.

بين التحركات الاقتصادية والسياسية

تحاول حكومات هذين البلدين، وغيرها من البلدان الغربية بطبيعة الحال، الترويج بأن ما يجري أزمة اقتصادية عابرة حمّلت وزرها على كوفيد-19 أولاً، ثم الأزمة الأوكرانية ثانياً وحتى الآن، بينما واقع الحال يؤكد العكس، فعلى الرغم من الآثار الملحوظة التي تركتها الجائحة، أو الحرب في أوكرانيا، إلا أن كلا الحدثين وقعا وتوسعت آثارهما بسبب الأزمة الاقتصادية الرأسمالية وتطوراتها، وسياسات كلاً من النظام الاقتصادي الاجتماعي عالمياً عموماً، والأنظمة الليبرالية خاصة، التي تمضي بنهج يحابي مصالح نخب المال على حساب الشعوب.
يمكن وصف ما يجري في المملكة المتحدة وفرنسا من إضرابات واحتجاجات بأنه نوع من النضال الاقتصادي، تحركٌ للعمال من أجل الضغط على حكوماتهم وانتزاع حقوق محددة لهم، كرفع الأجور، أو خفض سن التقاعد، أو تلقي المزيد من الإجازات المرضية أو التعويضات وغيرها من الأمور، لكن هذا الشكل من النضال على أهميته بتعبئة الرأي العام وتنظيم الصفوف، إلا أنه لن ينتج أي تغيير يذكر ما لم يترافق أو ينتقل إلى الشكل السياسي المنظم.
وإذا ما نظرنا إلى تطورات التحركات الشعبية والعمالية في أوروبا مؤخراً، يمكن القول: إن الحركة الاحتجاجية تمضي نحو هذا الاتجاه، فقبل سنوات برزت حركة «السترات الصفراء » في فرنسا وألمانيا، مع احتجاجات شبيهة لهم، وإن كانت محدودة في المملكة المتحدة، بهدف سياسي عام يناهض السياسيات الليبرالية مباشرة، ويدعو إلى تغيير المنظومة، إلا أن هذه التحركات لم تكن منظمة تماماً، ولم تكن تمتلك برنامجاً سياسياً يمكن الدفع به، ثم غابت هذه الاحتجاجات بطابعها السياسي، وبرزت الحركة العمالية بأشكال احتجاج مختلفة وبمطالب اقتصادية منظمة وموحدة. ما تحتاجه هذه البلاد وغيرها، والمتوقع مستقبلاً، هو النقلة النوعية التي ستجمع بين الأمرين: التنظيم، والأهداف السياسية.
وهو الأمر الذي لن يجري إلا مع توسع القناعة الشعبية، عبر الاختبارات الجارية بمختلف أشكال النضال، والاحتجاج المنظم وغير المنظم، السياسي والاقتصادي، بأن المشكلة بنيوية وجذرية، لا يمكن حلها إلّا سياسياً، وعبر التغيير الحقيقي للنظام الاقتصادي الاجتماعي ككل، الأمر الذي تدركه النخب الحاكمة في الغرب، وتعمل ما في وسعها على إعاقته بمختلف الأشكال، بما فيها تنمية التطرف اليميني داخل هذه الدول، وتأجيج الصراعات الوهمية، ولا مانع من نشوب صراعات أهلية حقيقةً إذا ما كانت تحول بينها وبين تغييرها.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1108
آخر تعديل على الإثنين, 06 شباط/فبراير 2023 10:44