«شنغهاي للتعاون».. أجِنّة العالم الجديد تنمو

«شنغهاي للتعاون».. أجِنّة العالم الجديد تنمو

وقفت الولايات المتحدة ضد أية محاولات لكسر هيمنتها على العالم، ونظرت بنوع من الريبة إلى أي تعاون إقليمي أو دولي بعيداً عن نطاق تأثيرها، حتى وإن لم يُظهر عداءً واضحاً لـ «المشروع الغربي» المُقاد أمريكياً، ولا تعد منظمة شنغهاي للتعاون استثناءً عن القاعدة المذكورة أعلاه، بل يبدو أن قلق الولايات المتحدة تجاه «شنغهاي» يتعاظم مع كل خطوة للمنظمة، وخصوصاً أن آفاقها أوسع بكثير مما نراه الآن.

استضافت مدينة سمرقند في وأوزبكستان، قمة زعماء منظمة شنغهاي، التي عقدت في 16 و17 من شهر أيلول الجاري. وعلى الرغم من أهمية الحدث، وكل الأنشطة السياسية التي رافقته، إلا أن الإعلام الغربي حرص على تأطيره، وألقى الضوء على الجوانب الأقل تأثيراً. ففي وقت انعقاد القمة كانت تجري معارك حدودية بين دول الأعضاء «قرغيزستان وطاجيكستان»، بالإضافة إلى أن الهند والصين لم تصلا بعد إلى إيجاد حل جذري للمشاكل الحدودية بينهما، إلى جانب تعدد أوجه المنافسة بين عملاقي آسيا، فضلاً على الخلافات الأخرى الظاهرة بين الهند وباكستان، والمخفية بين روسيا وأوزبكستان. وغيرها الكثير من مشاكل قائمة فعلًا يجب على «منظمة شنغهاي» التعامل معها، لكن الأجواء الإيجابية التي رافقت انعقاد قمة سمرقند، وتوقيع الإعلان المشترك، كانت دليلاً على أن دول المنظمة، وعلى الرغم من خلافاتها الطبيعية، تجد أن إطار التعاون هذا، يعد استثماراً رابحاً، وتدرك أن المنظمة تتجه للعب دورٍ أكبر لا على ساحة الإقليم فحسب، بل على مستوى العالم. فبدلاً من الانشغال بالخلافات والتنافس تتدافع الدول لحجز مقعدٍ في المنظمة.

لمحة عن «شنغهاي»؟

تأسست منظمة شنغهاي للتعاون SCO في عام 2001 كتطوير لـ «مجموعة شنغهاي الخماسية» التي جرى تأسيسها في أواخر تسعينيات القرن الماضي، وهي المدّة الزمنية التي استنفذ الغرب أية إمكانية جديّة للتوسع وبدأت قوى واقتصاديات أخرى بالنمو والتطور، وتحديداً في منطقة الشرق، وجاءت «شنغهاي» كمثالٍ واضح عن آفاق جديدة قيد التشكل. إذ ضمت المنظمة عند تأسيسها كلاً من روسيا والصين بالإضافة إلى 4 من جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق، وهي كازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان وأوزبكستان. وظهرت المنظمة بوصفها إطاراً للتعاون الشامل، وشكلاً من أشكال التحالف السياسي والاقتصادي والأمني والعسكري. ولكن وجود جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابقة أعطى المنظمة صبغة محددة حينها، فرأى البعض أن روسيا تحاول إعادة إحياء إطار جامع مع هذه الجمهوريات، تؤمن بواسطته محيطها الحيوي الذي تصدّع بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وعلى الرغم من أن منظمة التعاون هذه أدت دوراً في تحقيق هذا الغرض، إلا أن آفاق تطورها كانت أكبر من ذلك بكثير، وحصلت الهند وباكستان على عضوية كاملة في المنظمة عام 2017، ثم وافق الأعضاء في 2021 على قبول إيران لتصبح أحد الأعضاء الثمانية كاملي العضوية. وتؤمّن «شنغهاي» أشكالاً مختلفة للتعاون، ولا تحصرها في العضوية الكاملة، فهناك دول بصفة مراقب، ودول ضمن قائمة «شركاء الحوار» ومن بعض هذه الدول المهتمة بتعميق شراكتها مع المنظمة: بيلاروسيا، وتركيا، ومصر، والسعودية، وأفغانستان، ومنغوليا، نيبال، كمبوديا، وأرمينيا، وسريلانكا، وقطر، وغيرها.

1088-2

الآفاق أكثر اتساعاً

استطاعت منظمة شنغهاي التوسع خارج الأطر التي حاول الغرب فرضها، فلا يمكننا القول بأن دولاً كاملة العضوية، مثل: الهند وإيران دولاً تابعة لنفوذ الصين وروسيا، ولا يمكننا تجاهل أن الانضمام للمنظمة بات «هدفاً» لبعض الدول، حتى دول في «حلف الناتو»، وهو التعبير الذي استخدمه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، حين أشار إلى هدف بلاده النهائي من العلاقة بالمنظمة. وينطبق الأمر أيضاً على قوى إقليمية أخرى، مثل: السعودية ومصر وبلاروسيا. والسؤال الأهم: ما الذي يمكن لهذه المنظمة تقديمه فعلياً؟
يبلغ عدد سكان الدول الأعضاء في المنظمة حوالي نصف عدد سكان العالم، وتشكل مساحتها ثلاثة أخماس أوراسيا، وبلغ الحجم الاقتصادي المشترك لهذه الدول حوالي 18.4 تريليون دولار، بزيادة 11 ضعفاً منذ تأسيس المنظمة، التي ازداد حجم التبادل التجاري الداخلي فيها ليصل إلى 6.2 تريليون دولار حالياً بعد أن ارتفع 8 أضعاف منذ 2001. والمثير للاهتمام أيضاً، أن المنظمة حققت نجاحات كبيرة في مجالات الأمن ومحاربة الإرهاب وتجارة المخدرات، إذ نجحت بتحييد حوالي 1700 منظمة موضوعة على قوائم الإرهاب الدولي، بالإضافة إلى نجاحها في ضبط حوالي ربع كمية العقاقير المخدرة المصادرة في جميع أنحاء العالم. ولعبت «شنغهاي» دوراً في تنظيم العديد من المناورات العسكرية، وأشكال أخرى للتعاون العسكري بين أعضائها. ويجري الحديث اليوم عن ضرورة اعتماد قائمة خاصة للمنظمات الإرهابية من قبل الدول الأعضاء في شنغهاي وعن تبني خطة طموحة لزيادة حصة التبادل بالعملات المحلية على حساب الدولار، هذا إلى جانب العمل على تعزيز نظام تجاري مفتوح متعدد الأطراف، مصحوباً بتعاون مالي ومصرفي كبير، بعيداً عن القيود الغربية. حتى إن الرئيس الروسي اقترح في القمة الأخيرة، إنشاء اتحاد للمنظمات الرياضية للدول الأعضاء بهدف تنظيم «أحداث رياضية كبرى تحت رعاية المنظمة». يعتبر ما سبق مثالاً عن مجالات التعاون بين هذه البلدان، التي تشكّل عامل جذب حقيقي لدول كثيرة، وتحديداً في هذه الفترات التي يعيش فيها العالم حالة إضراب وتغيير كبرى.
رأى وزير الخارجية الأمريكي، أن: «الصين وروسيا تسعيان إلى استخدام منظمة شنغهاي للتعاون لتشكيل تحالف من الأنظمة الاستبدادية التي تعارض قوى الديمقراطية»، تشكّل هذه الكلمات رد الفعل الأمريكي المتوقع على تنامي دور المنظمة، بل إن بلينكن حاول التركيز على التباينات المعروفة في الموقف من العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، في محاولة لتصوير المنظمة كجسم متصدع، لكن الواقع يثبت غير ذلك، فالهند والصين لم تؤيدا العملية العسكرية الروسية على العلن، وربما يتحفظ البلدان على بعض ما يجري في أوروبا، لكن هذا لم يتحول أبداً للانخراط في الحملة الغربية ضد روسيا، بل إن الهند أطلقت حملة مضادة على الغرب ومعاييره المزدوجة، ولم تظهر حتى اللحظة أية نية في التراجع عن مواقفها. ما لا تدركه الولايات المتحدة أن دولاً كثيرة، مثل: الهند، تواقة لوضع سياساتها بشكل مستقل، وبعيداً عن الإملاءات الأمريكية، وفي هذه الحالة يحق للهند انتقاد الحرب الروسية في أوكرانيا، ويحق لها في الوقت نفسه تطوير علاقاتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية مع روسيا، فما يحدد هذا التوجه هو مصالح الهند لا مصالح الولايات المتحدة.

إلى أين تتجه شنغهاي؟

قال الرئيس الصيني شي جينبينغ للدول المجتمعة: إن «الوقت حان لإعادة تشكيل النظام الدولي»، وأكد على ضرورة «العمل المشترك لدعم تنمية النظام الدولي في اتّجاه أكثر إنصافا وعقلانية» من جانبه أكد الرئيس الروسي ازدياد نفوذ الدول غير المحسوبة على الغرب، وقال: «دور مراكز القوى الجديدة التي تتعاون مع بعضها البعض يزداد وضوحاً» واعتبر الكرملين أن هذه المنظمة تعتبر بديلاً للمنظمات المتمركزة حول الغرب. لكن المثير للانتباه هي التصريحات التي أدلى بها الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، حين أشار إلى أن اللحظة الحالية تسمح بتحويل شنغهاي من منظمة إقليمية إلى منظمة عالمية، ويجب عدم تفويت هذه اللحظة حسب تعبيره. وقال: «أنظار البشرية التقدمية موجهة إلى منظمتنا» وأكد أنه من الضروري منح الدول بديلاً عن الدول الغربية المهيمنة، فحسب لوكاشينكو، يمكن للمنظمة أن «تحل المشاكل العالمية للنظام العالمي». ليضيف مساعد الرئيس الروسي يوري أوشاكوف، أن منظمة شنغهاي للتعاون بديل حقيقي للهياكل والآليات الغربية، وأن أعضاءها ملتزمون بتشكيل نظام عالمي متعدد الأقطاب أكثر ديمقراطية.
هذه التصريحات تصب جميعها في اتجاه واحد، وهو: أن منظمة التعاون هذه على أعتاب تحول نوعي في وظيفتها، وهو ما يفسر إلى حد ما الإقبال الشديد على توسيع علاقات الدول مع المنظمة، وتقديم طلبات للعضوية فيها. الأفق بات مفتوحاً أمام شنغهاي، ويمكن أن تؤمن المنظمة قريباً أشكالاً أكثر فاعلية للدول الأعضاء من المنظمات المشابهة المسيطر عليها غربياً، فإن كانت منظمة التجارة العالمية ومنظمات حظر انتشار الأسلحة النووية والكيميائية، وغيرها من المنظمات المعنية في مكافحة الجريمة، أو حتى المعنية في تنظيم الأحداث الرياضية العالمية باتت أدوات بيد الغرب، فلا يكون مستغرباً أن تسعى دول العالم الصاعدة لإيجاد بدائل حقيقية عن كل هذه المؤسسات، وإشارة لوكاشينكو إلى إمكانية أن تلعب المنظمة دوراً في حل المشاكل العالمية في المستقبل، يجعلها بالتأكيد واحدة من الأطر الواعدة في هذا الاتجاه، ويمكنها أن تتحول في القريب العاجل إلى عامل ضغط أساسي يسمح بإعادة هيكلة لكل المنظمات الدولية، وعلى رأسها الأمم المتحدة، لتحقق هذه المنظمات تمثيلاً متوازناً وحقيقياً للجميع.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1088