الناتو يبني جداراً فاصلاً بين أوروبا وروسيا!

الناتو يبني جداراً فاصلاً بين أوروبا وروسيا!

لا يبدو أن حلف شمال الأطلسي- الناتو- يرغب بالإبقاء على أية فرصة للحوار أو السلام مع روسيا، وذلك على الرغم من خساراته المتتالية، التي تضعف دوله الأعضاء الأوروبيين بالدرجة الأولى، وتدفعهم بشكلٍ أكبر نحو احتمالات صراعٍ عسكري مباشر معها، فالولايات المتحدة تعبّد اليوم مساراً تصعيدياً جديداً، ويجري إدراجه ضمن الاستراتيجية الجديدة.

عقد حلف شمال الأطلسي «الناتو» قمته السنوية في العاصمة الإسبانية مدريد يوم الأربعاء 29 حزيران، وانتهى بإصداره «مفهوماً استراتيجياً» جديداً، ينطوي بمجمله على اعتبار روسيا «التهديد المباشر والأهم على أمن الحلفاء».

المفهوم الجديد..
روسيا تهديد مباشر

خصت الاستراتيجية الجديدة ببنودها الـ 49 عدة نقاط متعلقة بروسيا والعلاقة معها، وكانت قد سبقتها نقاط أخرى تتحدث عن التهديدات الدولية عامة، والتي تعني ضمناً روسيا أيضاً، فضلاً عن نقطتين تخصان الصين، أما ما تبقى من نقاط فهي تتحدث عموماً عن استمرار عمل الحلف نحو ضمان أمن أعضائه، والتعاون والدفاع المتبادل على المستويات العسكرية والأمنية بأنواعها المختلفة، من صراعات تقليدية أو سيبرانية سواء في أوروبا أو غيرها من المناطق التي تؤثر على أمن الحلفاء من وجهة نظرهم، ومكافحة الإرهاب، وإدارة الأزمات.
وعليه، فإن المفهوم الجديد كما يتضح من الاستراتيجية المعلنة يتكثف بنقطته الثامنة: «الاتحاد الروسي هو التهديد المباشر والأهم على أمن الحلفاء والسلم والاستقرار في المنطقة الأوروبية- الأطلسية...» مع ذكر مجموعة من الادعاءات والاتهامات لروسيا، كسعيها للتخريب والعدوان وغيرها، بما يرسم الإستراتيجية الجديدة للناتو دولياً، ضمن هذا السمت العام في أية نقطة أو ملف من الملفات الدولية.

تحذير الصين واللعب على علاقتها مع روسيا

في النقطة الـ 13: «طموحات وسياسات جمهورية الصين الشعبية القسرية تتحدى مصالحنا وأمننا وقيمنا. تستخدم جمهورية الصين الشعبية مجموعة واسعة من الأدوات السياسية والاقتصادية والعسكرية لزيادة وجودها العالمي.. بينما تظل غامضة فيما يتعلق بإستراتيجيتها ونواياها وتحشيدها العسكري. تستهدف العمليات الهجينة والسيبرانية الخبيثة لجمهورية الصين الشعبية، وخطاب المواجهة خاصتها، ومعلوماتها المضللة للحلفاء، وتضر بأمن الحلفاء...».
بينما في النقطة الـ 14: «نبقى منفتحين للمشاركة البناءة مع جمهورية الصين الشعبية بما في ذلك بناء الشفافية المتبادلة بهدف حماية المصالح الأمنية للحلف. سنعمل سوياً كحلفاء بمسؤولية لمواجهة التحديات المقدمة من جمهورية الصين الشعبية للأمن الأوروبي- الأطلسي، وضمان قدرة الناتو على الدفاع عن أمن الحلفاء».
يُعدّ ذكر الصين ضمن المفهوم الاستراتيجي الجديد للناتو بهذا الشكل هجيناً وغريباً بحد ذاته، إلا أنه مفهوم باعتبار الحلف بات كلياً أداةً أمريكية بامتياز، ويتحرك وفق مصالح واشنطن بالدرجة الأولى، إن لم تكن الوحيدة، فعلى الرغم من أن علاقة روسيا والصين تمثل علاقة تحالف، ويكملان بعضهما بعضاً، ضمن موازين القوى الجديدة، إلّا أن الغرب عمد على الدوام إلى التفريق بين البلدين بشتى الوسائل، فبينما كانت روسيا خصماً دائماً تمثل الخصم العسكري، كانت الصين الخصم الاقتصادي، إلّا أن إقحامها الآن في استراتيجية الحلف عسكرياً له دلالات عدة، منها: أن تحركات الصين العسكرية الأخيرة وتعاونها مع روسيا بالشكل التحالفي، بات يفرض نفسه بشكلٍ لا يمكن إنكاره غربياً بعد الآن، وأن تخصيصها بالذكر هنا يحمل تهديداً مباشراً لبكين من الناتو جراء هذه التحركات، وأن ذلك لم يُنهِ تماماً بعد الأحلام الأمريكية بفسخ علاقة بكين وموسكو، عبر ذكر استمرار الانفتاح للمشاركة البناءة مع الصين بعد التهديد السابق.. أي أن الرسالة اختصارها: تعد بكين تهديداً للغرب بالمثل من موسكو إلا أننا على العكس من موقفنا من موسكو قد نكون منفتحين على الحوار إن غيرت من سلوكها.

تحركات عسكرية جديدة

أعلن الأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرغ عن رفع تعداد قوات الرد السريع من 40 ألف إلى 300 ألف، وهي قوات عسكرية مشتركة جاهزة وقابلة للتحرك بشكلٍ لحظي سريع لصد أيّ اعتداء عسكري محتمل.
كما أظهرت بيانات جديدة، أن التواجد العسكري الأمريكي في أوروبا قد تم رفعه من 70 ألف إلى 100 ألف منذ شهر شباط الماضي وحتى الآن، وفقاً لصحيفة إل باييس الإسبانية، وبتأكيد من تصريح صادر عن البيت الأبيض.
كما أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن خلال قمة الأربعاء عن رفع تواجد بلاده العسكري شرقي أوروبا، عبر إنشاء قاعدة جديدة لهم في بولندا، وإعادة تمركز 5 آلاف فرد في رومانيا، وإرسال سربين جديدين من مقاتلات F-35 دون ذكر العدد تماماً.
ليرفع هذا الأمر بالمحصلة من درجة التوترات الأمنية والعسكرية بين أوروبا وروسيا بالدرجة الأولى، ويلقي بتأثيراته على استدامة الصراع في أوكرانيا، التي تتلقى بدورها مساعدات عسكرية ضخمة لدرجة تجعل منها ساحة حرب بالوكالة بين روسيا والولايات المتحدة، ويؤدي ذلك بالمحصلة لإنشاء ضغوط كبرى على الدول الأوروبية.

ناتو أمريكي وإعلان عزل أوروبي

لم تعد تخفى على أحد درجة التناقضات والخلافات الأوروبية- الأمريكية الحاصلة والمتطورة بشكل دائم، منذ عقد على أقل تقدير وحتى الآن، والتي تعبر عنها الدول الأوروبية فرادى وصراحةً خارج المؤسسات المشتركة، كالاتحاد الأوروبي أو حلف الناتو المهيمن عليهما أمريكياً من جهة، واللذين يتضمنان ممثلين أوروبيين تابعين لواشنطن بطبيعة الحال من جهة أخرى، لتلك الدرجة التي أعلن بها الأوروبيون مثالاً على لسان الرئيس الفرنسي ماكرون قبل عامين برغبتهم ببناء تحالف عسكري أوروبي مشترك جديد، لا وجود فيه للولايات المتحدة، فسلوك مؤسسة الاتحاد الأوروبي، وحلف الناتو، يمثل مصالح واشنطن بالدرجة الأولى، بما فيها «المفهوم الاستراتيجي» الجديد هذا، الذي يضع جداراً فاصلاً وعالياً بوجه العلاقات الروسية/ الأوروبية- يذكرنا بجدار برلين نفسه مع اختلاف المواقع والمواقف- مع تلميح ببناء شبيه له بالعلاقات الصينية/ الأوروبية، والذي لن يؤثر في نهاية المطاف إلّا إلى عزل القارة العجوز عن التطورات العالمية الجديدة، المقادة من قبل روسيا والصين بالدرجة الأولى، وإبقائها قسراً تحت مظلة واشنطن.. فيمكن القول الآن، بالاستناد إلى النقطتين اللتين تخصان الصين مباشرة على أقل تقدير: إن سياسة «الغموض الاستراتيجي» الأمريكية تجاه الصين قد باتت الآن سياسة أوروبية أيضاً، ومفروضة عليها عبر هذا الهيكل العسكري.
ولا ننسى أن الولايات المتحدة المتأزمة ترى في الاتحاد الأوروبي خصماً اقتصادياً أيضاً، وينبغي إضعافه، وتصدير ما أمكن من الأزمة إليه، ويجري ذلك ضمن خصوصية العلاقة بينهما عبر إدارة هذا الأمر والسيطرة على دول أعضائه باستخدام هذه الأدوات/ المؤسسات المختلفة.

انضمام السويد وفنلندا

ضجت وسائل الإعلام مؤخراً بأنباء اتفاق تركيا مع السويد وفنلندا على تنفيذ الأخيرتين لشروط أنقرة من أجل موافقتها على انضمامها لحلف الناتو، وقيام الأخيرة بإرسال دعوتين رسميتين لكلا البلدين من أجل الانضمام وحضورهما للقمة السنوية في مدريد كمستمعين.
ولكن سرعان ما خفتت أصوات الاحتفالات الغربية تلك مع تأكيد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أن موافقة بلاده لن تصدر مطلقاً قبل أن تقوم كلاً من السويد وفنلندا بالتنفيذ الفعلي والعملي للشروط التي تتضمن تسليم شخصيات سياسية من حزب العمال الكردستاني، وما يسمى بمنظمة فتح الله غولن الموجودين في البلدين، واعتبار الكيانين «إرهاباً»، ورفعهما العقوبات المطبقة منهم على تركيا.
وعليه عملياً، فإن مسألة انضمامهما لا تزال موضوع صدٍ ورد، وستحتاج الكثير من الوقت قبل موافقة أنقرة رسمياً، حيث أن الرضوخ لمطالب تركيا ينطوي على ردود فعل داخلية، سواء ضمن البلدين أو ضمن أوروبا ككل، لا يمكن للسويد أو فنلندا تجاهلها أو التهور بها، ومن جهة أخرى، فإن انضمامهما لا يشكل بالضرورة ومن الناحية العملية تهديداً لروسيا، طالما لن يجري نقل قواعد أو جنود عسكريين إليهما، وفقاً لتصريحات البلدين الرسمية، إلا أن ذلك لا يعد أمراً ثابتاً بطبيعة الحال.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1077
آخر تعديل على الإثنين, 04 تموز/يوليو 2022 14:16