كسينجر يتحدث مجدداً فهل تستجيب موسكو هذه المرة؟

كسينجر يتحدث مجدداً فهل تستجيب موسكو هذه المرة؟

عاد كيسنجر لطرح «آرائه» مجدداً، حول مستقبل الحرب في أوكرانيا، والسيناريوهات التي يرى العجوز أنها مازالت مطروحة على الطاولة حسب اعتقاده، ولكن اتسم حديث وزير الخارجية الأسبق- ومستشار الأمن القومي الأمريكي- بنكهة مختلفة، تثبت من جديد السبب الحقيقي الذي دفعه للحديث منذ البداية! وهو محاولة التحكم بنتائج المواجهة الدائرة حالياً على المستوى العالمي.

عبّر هنري كيسنجر وفي مناسبتين متقاربتين- كانت آخرهما مؤتمر دافوس في 23 من شهر أيار الماضي- عن مقترحات من شأنها حسب اعتقاده تجنب «صدمات وتوترات لن يتم التغلب عليها بسهولة» شرط أن يجري البدء في تنفيذها خلال شهرين كحد أقصى، واليوم، بعد مضي أكثر من شهر على هذه التصريحات، أطل «ثعلب واشنطن» مجدداً ليتحدث بنبرة مختلفة، فما الذي حدث خلال هذا الشهر؟ وهل لا تزال صلاحية مقترحات كيسنجر صالحة للتنفيذ كما يدّعي؟

ما بين «دافوس» واليوم

في مادتين سابقتين، الأولى: للمحرر السياسي في موقع قاسيون بتاريخ 25 أيار الماضي، والأخرى تلتها في تاريخ 23 حزيران، أعدها مركز دراسات قاسيون، وفي المادتين استنتاج يفسر كلمات كيسنجر بوصفها تعبير عن قناعة موجودة لدى تيار في النخبة المالية الأمريكية، والتي تفيد بضرورة إيجاد طريقة لوقف الارتدادات العالمية لما يجري في أوكرانيا، والتي من شأنها تقويض أسس العالم الذي بنته واشنطن لخدمة مصالحها، وكان طرح هذه النخب الذي عبّر عنه كيسنجر يقول: إن أوكرانيا قد تضطر «للتنازل عن جزء من أراضيها» لوقف الحرب، وسيكون الوضع المحايد لأوكرانيا هو الوضع المثالي، مما سيسمح لها حسب كيسنجر لأن تكون «جسراً بين روسيا وأوروبا» عوضاً عن خطٍ للمواجهة، وذهب عراب الاتفاقية الصينية-الأمريكية في سبعينيات القرن الماضي- للتنبيه إلى خطورة دفع روسيا نحو تحالف دائم مع الصين، وخصوصاً بعد أن تذكر فجأة أن «روسيا كانت عنصراً أساسياً في أوروبا خلال الـ 400 سنة الماضية».
أي أن هذا الطرح كان بمثابة محاولة لعقد صفقة ما مع روسيا، يتنازل بموجبها الغرب عن ورقة أوكرانيا التي تلاعب بها طوال سنوات، في مقابل إبعاد روسيا عن الصين، ووضع حد للخطوات التي يسعى البلدان وحلفائهم لها، بهدف إنهاء الهيمنة الأمريكية وتحطيم أدواتها الأساسية. وكان الاستنتاج النهائي الذي وصلت له المادة التي أعدها مركز دراسات قاسيون، يقول بفشل الغرب في عقد صفقة المحاصصة هذه، وخصوصاً بعد إعلان الرئيس الروسي في منتدى سانت بطرسبورغ الاقتصادي بأن: «نظام القطب الواحد انتهى، ولنْ يعود مرة أخرى» وإعلانه اللاحق بعد ذلك بأيام قليلة عن بدء العمل على «إنشاء عملة احتياط دولية على أساس سلة عملات دول بريكس».

ما الذي يقوله اليوم؟

في لقاء مطول مع سبيكتيتور، قال هنري كيسنجر: إن الغرض الأساسي من تصريحاته في دافوس كان التنبيه إلى أنه يجب التعامل مع ما يجري في أوكرانيا قبل أن يدفعنا زخم الحرب إلى «مرحلة لا يمكن التعامل معها سياسياً». ولكن هذه المرة أشار إلى أن هناك ثلاثة احتمالات قائمة لم يكن قد جاء على ذكرها في حديثه السابق، الاحتمال الأول: هو أن تحتفظ روسيا بمواقعها الجديدة والتي تشمل 20% من أوكرانيا، والتي تضم حسب تعبيره، معظم الدونباس، والمنطقة الزراعية والصناعية الأساسية في البلاد، وشريط من الأرض على طول البحر الأسود. مما يجعل هذا الاحتمال بمثابة انتصار لروسيا، وسيفقد الناتو «دوره الحاسم السابق». أما الاحتمال الثاني: سيكون «بدفع روسيا بعيداً عن الأراضي التي سيطرت عليها في هذه الحرب بما فيها القرم» ولكنه لم يغفل أن ذلك سيحول الحرب إلى «حرب مع روسيا» في اشارة إلى دخول الغرب بشكل مباشر في الصراع. وأشار أن الاحتمال الثالث: يتمثل في العودة إلى ما كان عليه الوضع قبل 24 شباط، وهو ما ذكره في دافوس، ولكنه تحدث عنه هذه المرة بوصفه إنجاز غربي مهم، يكاد يكون بمثابة خسارة لروسيا! وأسهب كيسنجر بالحديث: بأن نجاح «الحلفاء» في تثبيت هذا السيناريو سيعني أن «الناتو سيكون أقوى وخصوصاً بعد انضمام فنلندا والسويد، مما سيزيد من قدرته في الدفاع عن دول البلطيق، وسيتم إعادة تسليح أوكرانيا التي ستملك أكبر قوة برية في أوروبا، والتي ستعزز روابطها مع الناتو إن لم تكن عضواً فيه».
الاحتمالات الثلاثة التي تحدث عنها مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق، يمكن قراءتها على عدة مستويات والتي وعلى الرغم من اختلافها إلا أنها لا تتناقض فيما بينها، بل ربما تسعى النخب الأمريكية وعبر أحد ممثليها بأن ترسل جملة من الرسائل لا إلى روسيا فحسب، بل إلى أوكرانيا والدول الأوروبية أيضاً.
رسالة إلى أوكرانيا: أشار كيسنجر بنوع من الخبث إلى أن زيلينسكي لم يقرأ تصريحاته قبل أن يستنكرها، ليضيف بأن هذا الأخير وفي تصريحات للفايننشال تايمز تحدث بما يتطابق مع مقترح كيسنجر السابق، أي أنه يقول: إن أوكرانيا وعلى لسان رئيسها قبلت خطوط 2014 «القرم وجزء من الدونباس»، وإذا أردنا صياغة هذه الرسالة بشكل أوضح، ستكون بمثابة تحذير أخير لأوكرانيا بأنها أداة لا حق لها في تحديد موقفها وشروطها في هذه الحرب، بل عليها القبول علناً بأنها أداة أمريكية وألا تقاوم المصير الذي تضعه واشنطن لها، ولا يحق لها الاعتراض علناً على «سيدها الأمريكي» حتى عندما يفاوض على أراضيها.
رسالة إلى الدول الغربية: إمكانية ردع روسيا محدودة، وإن تحقيق النتائج الجيدة يتطلب انخراطاً مباشراً في هذه الحرب، فالإشارة إلى إمكانية إلحاق هزيمة بروسيا، وإعادة فرض السيطرة حتى على القرم، ما هي إلا محاولة أمريكية جديدة لدفع الدول الأوروبية إلى حتفها، عبر رمي طعمٍ مغرٍ أمامها، بما يتماشى مع استراتيجية واشنطن بضرب منافسيها بعضهم بعضاً «روسيا والاتحاد الأوروبي في هذه الحالة» وخصوصاً أنه أشار إلى إمكانية تحقيق هذا دون انخراط مباشر من قبل واشنطن وسلاحها النووي! فوجود قناعة باستحالة هزيمة روسيا سيدفع الدول الأوروبية عاجلاً أم آجلاً إلى إعادة النظر في تمويل هذه الحرب، ولكن زرع أمل ما «يحفظ ماء الوجه الأوروبي» كفيل بدغدغة بعد الرؤوس الحامية الأوروبية.
رسالة إلى روسيا: يبدو شكلياً أن الصفقة لا تزال مطروحة على الطاولة، إلا أنها لم تعد تضمن حياد أوكرانيا ولا تضمن بقاءها بعيدة عن الناتو، ما يعني أن على روسيا أن تقبل بأقل مما هو مطلوب بالنسبة لها، ولكن كيسنجر يضيف تحذيراً مبطناً، أن معركتها مع أوكرانيا يمكن أن تتسع أكثر بعد أن تنخرط الدول الأوروبية في «حرب روسيا» مما سيجعل مهمة روسيا أصعب، وتكاليفها أكبر، بل أنه يشكك أيضاً بقدرة روسيا الحفاظ على أجزاء من أراضيها «في إشارته إلى القرم».
يوماً بعد يوم، يتضح أن محاولة جر روسيا لصفقة ما في أوروبا احتمال غير قابل للتحقيق، وخصوصاً أن الصفقة المطروحة من قبل واشنطن تركز على إعطاء روسيا جزءاً من «الكعكة الأوكرانية» في الوقت الذي تسعى فيه موسكو إلى شيء مختلف تماماً، وهو تثبيت قواعد جديدة في أوروبا، تضمن من خلالها أمن روسيا، مما يعني أن استمرار الناتو بوصفه غطاء للوجود الأمريكي في أوروبا لم يعد ممكناً، وإن العملية العسكرية التي تهدف لفرض حياد أوكرانيا لها أبعاد استراتيجية أكبر بكثير من حدود القرم أو الدونباس. ويضاف إلى ذلك أن واشنطن تأمل خائبة- وهو ما يعلنه كيسنجر صراحة- في إبعاد روسيا عن الصين، عبر استغلال «الخلافات» التي يراهن كيسنجر أنها ستظهر، كما لو أنه لا يدرك ما الذي يعنيه الجهد الاستراتيجي الذي تبذله روسيا والصين معاً، لإنهاء الهيمنة الإمبريالية، وطي صفحة قاتمة من استغلال دول الشمال المجحف لدول الجنوب! روسيا تدرك اليوم حجم الارتدادات العالمية لمعركتها في أوكرانيا، وتدرك الإمكانات الكبرى التي فتحتها هذه المعركة لتغيير النظام العالمي الذي نعيشه اليوم، ولهذا لا يمكن لـ 4% من أراضي أوكرانيا- التي يعرضها كيسنجر على روسيا- أن تكون كفيلة بوقف الخطوات الروسية، لأن المسألة ترتبط أولاً: بوجود روسيا من عدمه وضرورة منع الغرب من تحويل أوكرانيا إلى تهديد. وترتبط ثانياً: بإدراك الدول الصاعدة أن تحقيق خطوات للأمام لا يمكن أن يتم دون تحطيم الهيمنة الغربية وأدواتها.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1077