أردوغان في الرياض… تنازلات جماعية واعية لأهداف استراتيجية

أردوغان في الرياض… تنازلات جماعية واعية لأهداف استراتيجية

أنهى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان زيارة امتدت ليومين إلى المملكة العربية السعودية، وتعد هذه الزيارة الأولى منذ 2017. لا شك أن مؤشرات عديدة سبقت هذه الخطوة، إلا أنها طرحت مجدداً جملة من الأسئلة حول مستقبل العلاقات بين البلدين من جهة، وحول الدوافع الحقيقية لإزالة العوائق التي وقفت في وجه هذه العلاقة طويلاً من جهة أخرى.

ما هي تفاصيل هذه الزيارة؟ وكيف يجري تفسيرها؟ وهل فعلاً تتعامل السعودية بنوعٍ من الفتور في مقابل الحماسة التركية؟ وهل يمكن لنا النظر إلى ما يجري من زاوية أكثر اتساعاً؟

الملفات الموضوعة على الطاولة

وصلت في مساء يوم الخميس 28 نيسان 2022 طائرة الرئيس التركي إلى مطار جدة، وكان في استقباله أمير منطقة مكة المكرمة الأمير خالد الفيصل، والتقى بعدها الرئيس التركي مع الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز، ومن ثم أجرى لقاءً موسعاً مع ولي العهد محمد بن سلمان لبحث جملة من القضايا الثنائية والإقليمية. وقد ضم الوفد التركي الرفيع شخصيات تركية مرموقة مثل: رئيس دائرة الاتصال بالرئاسة التركية فخر الدين ألطون، والمتحدث باسم الرئاسة إبراهيم قالن، ورئيس جهاز المخابرات هاكان فيدان، بالإضافة إلى وفد حكومي موسع شمل كلاً من وزراء الداخلية والدفاع والعدل والصحة والخزانة والمالية ووزير التجارة بالإضافة إلى وزير الثقافة والسياحة. وعلى الرغم من الشح في التصريحات الرسمية أو الإعلان عن الاتفاقيات المتوقعة، إلا أن هذا الوفد الواسع يعطي مؤشراً على أن العلاقات بين البلدين تخضع بالفعل لإعادة ترتيب شاملة لكل القضايا، التي تتدرج من الأكثر حساسية، كالقضايا السياسية والعسكرية والاستخباراتية وصولاً إلى مجالات التبادل التجاري والثقافي والسياحة.

عناق بعد القطيعة

لم يكتف الرئيس التركي بالطبع في تلك الصور المنشورة عبر وسائل الإعلام، والتي تظهر العناق الحميم مع ولي العهد محمد بن سلمان، بل أدلى أردوغان بمجموعة من التصريحات الصحفية ليؤكد من خلالها على أن الزيارة التي جاءت بناءً على دعوة الملك السعودي، وتعكس رغبة مشتركة لدى البلدين لتعزيز العلاقات الثنائية، وأضاف: إن كلا البلدين يبذلان «جهوداً حثيثة من أجل تعزيز جميع أنواع العلاقات السياسية والعسكرية والاقتصادية وبدء حقبة جديدة». وأعرب أردوغان عن ثقته بأن «زيادة التعاون بين تركيا والسعودية في مجالات، مثل: الصحة والطاقة والأمن الغذائي وتكنولوجيا الزراعة والصناعات الدفاعية والتمويل، ستصب في المصلحة المشتركة للبلدين». وأشار إلى أن تركيا «لا تفرق بين أمنها واستقرارها وأمن واستقرار الأشقاء في منطقة الخليج».

الزيارة ضمن الزوايا الضيقة

بعد تعليق المحاكمة بقضية مقتل الصحفي السعودي جمال الخاشقجي، ونقل الملف في آذار الماضي إلى القضاء السعودي، بات توقع انفراج في العلاقات بين البلدين أمراً سهلاً، وخصوصاً أن تركيا في خطوتها هذه تنازلت عن إحدى أوراق الضغط الأساسية التي كانت ترفعها في وجه المملكة السعودية، وهذا تحديداً ما دفع البعض لقراءة هذا الحدث بوصفه تنازلاً تركياً وانتصاراً سعودياً- ويساعد الفتور السعودي الظاهر تجاه الخطوة التركية على هذا التحليل- وكذلك تساهم بعض قراءات المحللين في حصر المسألة بأحد جوانبها الأقل شأناً، فقد قدمت مجلة «فورن بوليسي» على سبيل المثال تفسيراً لما وصفته بالـ «الاستدارة التركية» فتقول: إن «تركيا تحتاج إلى أكبر كم من الأصدقاء، وذلك بسبب التضخم الكبير والأزمة التي تعصف بالعملة التركية، وما يمثله هذا من تهديد على الاستقرار في الاقتصاد التركي، هذا بالإضافة إلى أن الانتخابات الرئاسية ستجري العام القادم، مما يعني أن أردوغان ليس لديه سوى القليل من الوقت لإثبات أنه الشخص المناسب لإدارة اقتصاد البلاد»، وفي تصريحات أخرى نسبتها صحيفة الغارديان البريطانية لمسؤول سعودي تقول: «رحلة أردوغان حدّت طموحات تركيا للعب دور إقليمي أكبر. إنه يحتاج إلينا أكثر مما نحتاج إليه، وهو الشخص الذي يسافر إلينا. موقفه هذا كلفه خسارة المليارات من العائدات. أي تجارة ستكون وفقاً لشروطنا».
لكن وعند النظر إلى الخريطة في المنطقة من زاوية أوسع نرى سلوكاً مشابهاً لدى معظم الدول وفي جملة من القضايا، فتركيا مثلاً: تبادر بشكل نشط لما يمكن وصفه بأنه «استراتيجية تصفير المشاكل الجديدة» والتي تقوم على وضع كل القضايا الخلافية مع مجموعة من الدول في المنطقة مثل: الإمارات والسعودية ومصر، هذا بالإضافة إلى خطوات ملموسة قامت بها تركيا تجاه تخفيف حدّة التوتر في العلاقات بينها وبين الكيان الصهيوني، لكن ومن زاوية أخرى تشهد السعودية والإمارات من جهة وإيران من جهة أخرى محاولات حثيثة لتحسين العلاقات فيما بينها، وقد شهدت العلاقات بين السعودية وإيران حسب تصريحات رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي «انفراجة حقيقية». أي: إننا نشهد تحركات ملحوظة لكل القوى الإقليمية في المنطقة لـ «تصفير المشاكل» ليصبح هذا السلوك أشبه باستراتيجية عامة جامعة.

نقطة إضافية أساسية

تتسم الأجواء الدولية بدرجة عالية من التوتر، وخصوصاً بعد اشتعال الجبهة الروسية الأوكرانية والتي جاءت بمثابة تحول نوعي في الصدام بين دول الشرق الصاعدة من جهة، وواشنطن والدول الغربية التي فرضت القطبية الأمريكية منذ انهيار الاتحاد السوفييتي من جهة ثانية، عملية التحول التي يشهدها النظام العالمي حالياً- والتي بدأت ملامحها بالظهور منذ عقدٍ أو أكثر- ساهمت بفرز واسع، وهو ما يتمظهر اليوم على شكل ما يعرف باسم «استراتيجية المشاكل الصفرية» والتي تعد تعبيراً يفتقر للكثير من الدقة، فمشاكل الدول الكبرى في الإقليم «إيران- تركيا- سعودية» مع واشنطن مثلاً ليست صفريةً! ولا يبدو أن أيّاً من هذه الدول تسعى لتقديم أية تنازلات للولايات المتحدة المتراجعة، وهو ما كان يجب أن يحدث لو صحّت استنتاجات «الفورين بوليسي»، بل إن ما يجري هو العكس تماماًـ فهذه الدول تبدي حتى اللحظة صلابة في الدفاع عن مصالحها وتقدم تنازلات متبادلة فيما بينها لتدعيم أقدامها في الرمال العالمية المتحركة. أي إن إنعاش العلاقات بين القوى الإقليمية المؤثرة وطي الخلافات هو مصلحة استراتيجية عليا لهذه البلدان جميعها، والتنازلات التي يجري تقديمها في هذه اللحظات بالذات لا يمكن النظر إليها إلّا بوصفها خطوة ضرورية، لا لخضوع أيٍ من القوى الإقليمية الأساسية للأخرى بقدر ما هي تنازل جماعي واعٍ بهدف الوصول إلى التوازن الطبيعي في المنطقة، والذي يضمن مصالح الجميع. وإن قراءة التحولات الجارية في السياسة الخارجية لدول المنطقة من هذه الزاوية تضعنا أمام احتمالٍ آخر أيضاً، وهو: أن قناعة تنشأ لدى الدول الإقليمية المؤثرة في أن التقارب فيما بينها في هذه اللحظات بالذات يسمح لها بالانتقال من موقع المُتأثر المفروض عليها منذ قرون، لتكون في موقع المُؤثر وهو ما عبّر عنه الرئيس التركي أثناء عودته من السعودية بصراحة شديدة فقال: «أتمنى ألّا يغدو العالم الإسلامي سوقاً من الآن فصاعداً، وأن يكون في موقع المنتج المنفتح على أسواق جديدة إن شاء الله».
لا شك أن أمنية الرئيس التركي لا يمكن تحقيقها بهذه البساطة، لكن النظر إلى الإمكانات التي تمتلكها هذه الدول مجتمعة سيمكنها فعلاً من تغيير موقعها ضمن تقسيم العمل العالمي، وخصوصاً أن إيران قد حققت منفردة خطوات جدّية في هذا السياق، مما يعني أن إرساء هذه التفاهمات الجديدة من شأنه أن ينعكس على مستقبل المنطقة على المدى البعيد.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1068
آخر تعديل على الإثنين, 09 أيار 2022 12:24