حقبة توترات أوروبا.. هل تمضي نحو الانفجار؟

حقبة توترات أوروبا.. هل تمضي نحو الانفجار؟

أين ما نظرنا وبحثنا في أوروبا، سنجد خلافات وإشكالات من كل حدبٍ وصوب، سواء على المستوى الداخلي في كل دولةٍ على حدة، أو على مستوى العلاقات ما بين دول الاتحاد الأوروبي، أو على المستوى الخارجي وعلاقة الاتحاد ودوله مع كل من الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، بالإضافة إلى الإشكاليات ضمن مؤسسة الاتحاد الأوروبي نفسها، أو حلف شمال الأطلسي «الناتو»، وتشير تطورات هذه الخلافات والمجريات السياسية عموماً منذ عقدٍ بالحد الأدنى إلى وجود ميلٍ بتصاعد هذه التوترات بشكلٍ مطرد.

يأتي هذا الميل العام والخلافات المتصاعدة كصدى وانعكاس للتغيرات الدولية الكبرى الماضية في تأثيراتها على جميع دول العالم، بعنوانها العريض والمكرر، بتراجع الولايات المتحدة الأمريكية وصعود قوى دولية جديدة تدفع نحو بناء نظام دولي جديد بسياسات مختلفة كلياً عن سابقه، لتختل كل التحالفات والاتفاقيات والبنى السياسية التي أقيمت مع موازين القوى السابقة وبرعاية أو قيادة أمريكية مباشرة لها، فضلاً عن أن تراجع الولايات المتحدة في العالم الغربي يدفع تلك الدول الأضعف قوة إلى التنافس فيما بينها لملء الفراغات الحاصلة، وهو تنافس بطابع سياسي، يعود لفضاءات قديمة تتماوت، مبنية وقائمة على النهب والانتهازية والمكاسب أحادية الجانب.

مشاكل بالجملة

خلال العقد الماضي برزت تصدّعات ومشاكل عديدة كان من عناوينها: خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وخروج ألمانيا عن الصراط الأمريكي بإنشائها مع روسيا خط «السيل الشمالي-2»، والخلافات بين أعضاء دول الناتو والولايات المتحدة الأمريكية حول التمويلات والديون، والخلافات ضمن أعضاء الناتو، وتحديداً تركيا وفرنسا، وما تخللها من مواجهات بحرية في المتوسط، وقد برزت مؤخراً عناوين جديدة مضافة إليها من بينها: الخلاف الفرنسي- الأمريكي حول مسألة الغواصات الأسترالية والذي يحمل طابعاً سياسياً وعسكرياً واستراتيجياً، والخلاف الفرنسي- البريطاني حول تجارة الأسماك، والذي ينطوي على مسألة أعمق منها، بالإضافة إلى خلافات التجارة والجمركة سواء ما بين بريطانيا والاتحاد، أو الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ككل، وعلى الجانب الأخر نرى التصعيد السياسي والعسكري المستمر ما بين دول الاتحاد الأوروبي وروسيا، ومساعي إدخال أوكرانيا في حلف الناتو كتصعيد مع موسكو.

من المستفيد وما الغاية؟

بالاستناد إلى التاريخ نفسه، فمن المعلوم جيداً: أن الولايات المتحدة تمتلك تيارات موالية لها داخل كل دولة من دول أوروبا، وليس من الصعب معرفة أنها لا تزال تؤثر على القرار المتخذ داخل كل واحدةٍ منها، وبتركيب هذا الواقع على المصلحة الأمريكية الماضية بمحاولاتها إنشاء أزمات في كل مكان على الأرض كي لا تكون الخاسر الوحيد جراء الأزمة العالمية، وتُغرق معها كل ما يمكن إغراقه، تكون واشنطن هي المستفيد الأول من كل هذه التوترات، فضلاً عن أن هذه التوترات نفسها تعيق تطور علاقات الدول الأوروبية مع القوى الدولية الصاعدة، وتحديداً روسيا والصين، وبالتالي، تؤخر أيضاً من تثبيت أعمدة الميزان الدولي الجديد وسياساته، وبالمحصلة تؤخر قليلاً من تراجعها وانهيارها.
وبالإمكان رؤية هذا السلوك الأمريكي في ثنايا كل خلاف أوروبي قديم ومستمر أو جديد، ففي حلف الناتو مثلاً: أشعلت واشنطن في زمن ترامب قنبلة بين الدول الأعضاء تتعلق بتمويلات وحصة كل دولة من دول التحالف ومديونيتهم، ووجهت سهامها تحديداً إلى ألمانيا كتصعيد وردٍ على خط «السيل الشمالي-2» وتابعت بدفع قوات الناتو نحو الشرق لمواجهة روسيا، مع تخفيض قواتها هي نفسها من دول العالم، وآخرها أفغانستان، واضعةً دول الاتحاد الأوروبي بشكل متعمد ضمن المدى المجدي لأي تصعيد عسكري لاحق، مما دفع بفرنسا وألمانيا إلى طرح فكرة إنشاء تحالف عسكري أوروبي جديد لا وجود للولايات المتحدة الأمريكية فيه، وبالمثل أيضاً، كانت الولايات المتحدة الأمريكية تقف خلف كل من فرنسا وتركيا بالفترة التي وصلت فيها التوترات بين الدولتين إلى ذروتها، وجرت مواجهة بحرية بينهما في البحر المتوسط على خلفية الصراع لترسيم الحدود البحرية وتنقيب الغاز والملف الليبي، ومؤخراً، كان لاتفاق أوكوس حول الغواصات الأسترالية أساساً لانطلاق التوترات القائمة بين فرنسا وبريطانيا، والتي تتخذ الآن مسألة الصيد البحري والتجارة البحرية جانباً منها، والتي وبالمناسبة أيضاً تُظهر سلوك كل من الدولتين خلال العقد الماضي وتنافسهم فيما بينهم على مغازلة واشنطن، بينما تقوم الأخيرة وبشكل مستمر بخذلهما وطعنهما بالظهر، سواء على فرنسا باتفاقية أوكوس، أو بريطانيا برفض بايدن لإقامة اتفاقية تجارة حرة مع بريطانيا، وبالمثل ما يتعلق بالسلوك الأمريكي في أوروبا الشرقية وأوكرانيا وتركيا.
وضمن هذا المسار العام، تدفع الولايات المتحدة الدول الأوروبية بالاستناد إلى خلافاتهم الداخلية نفسها ومطامحهم السياسية على ضرب الجميع بالجميع، وتوتير علاقاتهم مع الجانبين الروسي والصيني أيضاً، وهو كما تظهر الأحداث ومؤشراتها على أنه اتجاه لن تهدأ الولايات المتحدة عن الدفع به، حتى وإن بلغ حدود انفجار أزمات سياسية حادة بين هذه الدول الأوروبية خدمة لمصلحتها.

هل ستصل التوترات إلى هذا الحد؟

على الرغم من أن الاتحاد الأوروبي وحلف الشمال الأطلسي ودولهم الأعضاء هم خصوم تاريخيون لروسيا والصين، وقد أقيموا أساساً لمواجهة نفوذ الاتحاد السوفييتي سابقاً، والروسي والصيني لاحقاً، إلا أن اختلاف المصالح الروسية- الصينية، والأمريكية، واختلاف السياسات والصراع القائم بين هذه البلدان حول إشعال حرائق الأزمات، أو إطفائها ومعالجتها عبر الحلول السياسية تشمل دول القارة الأوروبية نفسها.
فالمصلحة الأمريكية بتوتير أوروبا تهدف بأحد جوانبها إضعاف الوزن الروسي والصيني فيها من جهة وعرقلة تقدمه، وتدفع كلاً من الدولتين للغرق بأزمات مع دول الاتحاد الأوروبي من جهة ثانية، وأخيراً، فإن افتعال أزمات حادة بين الدول الأوروبية يهدد وبشكلٍ مباشر الأمن القومي الروسي نفسه، وكل هذه الأمور قائمة بأساسها على ضرب المصالح الاقتصادية لكل هذه الدول.
ضمن هذا السياق تدرك كل من الصين وروسيا موضوعة أن موازين القوى الجديدة ستفرض وتفرض نفسها تدريجياً على الجميع، بما فيها الدول الأوروبية، وعليه فإنها تمتص وتحتوي التصعيدات السياسية الموجهة إلى موسكو بشكل أساس، ونعيد منها إلى الأذهان كمثال: إسقاط الطائرة الروسية من قبل تركيا، والتصعيد بقضية اليكسي نافالني من قبل ألمانيا، إلا أن كلتا الدولتين في نهاية المطاف تمضيان باستدارة أكبر نحو الشرق بعلاقاتهما الاقتصادية والسياسية والعسكرية، سواء بانخراط تركيا ضمن ترويكا أستانا، أو بإكمال مشروع السيل الشمالي-2 مع ألمانيا، كمؤشرات على هذا الاتجاه الذي تدركه موسكو وتتفاعل معه ببعد استراتيجي، دون أن يعني ذلك بالضرورة أية تبدلات حالية بسياسات هذه الدول الأوروبية ومطامعها بالمعنى الذاتي أو النوايا، إلا أن الواقع يفرض نفسه، بين إما الغرق مع السفينة الأمريكية أو النجاة منها واللحاق بأسطول التعددية الدولية، وسياسات التوازن الجديد، لينتقل فيما بعد الدور الروسي والصيني في أوروبا من مرحلة الاحتواء إلى كونه فاعلاً في تهدئة الأزمات وإطفاء الحرائق في القارة الأوروبية، مقابل مصلحة واشنطن المعاكسة، بالمثل من بقية الملفات الدولية الأخرى.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1042
آخر تعديل على الإثنين, 01 تشرين2/نوفمبر 2021 14:16