ما الذي يتغير؟ الكيان الصهيوني أم العالم مِن حوله؟

ما الذي يتغير؟ الكيان الصهيوني أم العالم مِن حوله؟

في جلسة خاصة عُقدت مساء يوم الجمعة في الجمعية العامة للأمم المتحدة، قام المندوب الدائم للكيان الصهيوني بتمزيق التقرير السنوي الذي قدمته منظمة حقوق الإنسان، والذي يوثق انتهاكات الاحتلال المتكررة، المندوب الدائم الذي كان يُدرك بالطبع وهو يقف على منصة الأمم المتحدة الأثر السياسي والرمزي لفعله الهستيري هذا، قال إن مكان تقرير حقوق الإنسان فيما أسماه «سلة مهملات معاداة السامية»، واستنكر الصهيوني جعاد إرلدان، أن مجلس حقوق الإنسان قد أدان «إسرائيل» منذ إنشائه عبر 95 قراراً، بمقابل 142 قراراً ضد باقي دول العالم مجتمعة، كما لو أنه من غير الطبيعي أن يحصل الكيان الصهيوني المحتل والعنصري على ثلثي الإدانات لانتهاكات حقوق الإنسان على مستوى العالم!

سلوك السائد للكيان

الفعل الفظّ للمندوب الدائم لا يعتبر حدثاً منفرداً، فالكيان الصهيوني يزيد في الآونة الأخيرة من أفعاله الفظّة، تحديداً تلك التي تؤثر سلباً على صورته أمام جمهور مؤيديه في الغرب، فمنذ أيام مثلاً تقوم جرافات «سلطة الطبيعة» بالاعتداء السافر على صرح الشهيد داخل المقبرة اليوسفية، وسط وقفات احتجاجية رافضة من قبل المقدسيين الذين هبوا للدفاع عن رفاة ذويهم في المقبرة المذكورة. جرافات الاحتلال التي شرعت بتنفيذ خطة البلدية في تحويل المقابر الفلسطينية في المنطقة إلى حديقة عامة، لاقت استنكاراً عنيفاً من قبل الفلسطينيين الذين اعتبروا أن هذه الخطوة تعتبر تدنيساً للمقدسات وحرمة الموت، فالمقبرة اليوسفية تعتبر «إحدى أهم وأبرز المقابر الإسلامية في المدينة، والتي تضم رفات عموم أهل المدينة وكبار العلماء والصالحين والمجاهدين والشهداء، حسب بيان مجلس الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية في القدس»، وأعمال الحفر والتجريف التي تقوم فيها سلطات الاحتلال تعتبر استفزازاً مقصوداً لمشاعر الفلسطينيين، الذين صدموا لرؤية عظام شهدائهم بعد أن قلبت جرافات الاحتلال قبورهم. المواجهات لم تنته حتى اللحظة، وتجمع الفلسطينيون في محيط المقبرة القريبة من الجامع الأقصى لحماية ملامح مدينتهم من حملة التهويد المستمرة.
الكيان الصهيوني، وإلى جانب جريمته المستمرة في «اليوسفية» أعلن أيضاً موافقته على بناء مستوطنات جديدة في الضفة الغربية، وأدرج 6 منظمات مدنية فلسطينية كمنظمات إرهابية مما شكّل رد فعلٍ عنيف وغير مسبوق، تحديداً من الولايات المتحدة. وهذا ما شكّل تطوراً جديداً في العلاقات بين الكيان وواشنطن- الراعي الرسمي للكيان- مما بات يدفع الأمور نحو أزمة شاملة في العلاقات.

إعادة ترتيب الأوراق

تحاول واشنطن إعادة ترتيب أوراقها في المنطقة عبر إعادة ترتيب أولوياتها على مستوى العالم ككل، لكن حاجة الولايات المتحدة الملحّة هذه بات تصطدم بالكيان الصهيوني الذي يحاول في سلوكه إثبات نوعٍ من الاستقلالية. لكن الملفت في الموضوع هو الهجوم المتبادل بين البلدين، والذي بدأ يخرج مؤخراً خارج الغرف المغلقة، فالموقف الأمريكي يرى أنه من الضروري بالنسبة لواشنطن أن تبقي لنفسها حضوراً في ملف القضية الفلسطينية بعد ظهور نيّة حقيقية روسية- وصينية لوضع هذا الملف على طاولة الحل، وعلى أساس الشرعية الدولية تلك التي تظاهرت واشنطن باحترامها لسنوات في العلن، وعملت على تعطيلها عبر ممارساتها على أرض الواقع. لذلك باتت واشنطن أكثر حرصاً على إعادة فتح قنصليتها في القدس الشرقية، وباتت مضطرةً لتبطيء عملية بناء المستوطنات، لأنها تعني رفضاً وقحاً لقرارات مجلس الأمن. الكيان وجد نفسه في مأزقٍ، فهو وانطلاقاً من بنيته وأزمته الداخلية محكوم بهذا النوع من الممارسات. وواشنطن التي باتت مضطرة أيضاً لأن تعقد صفقة مع إيران- حتى وإن دفعت ثمنها باهظاً- تعلم بالطبع أن هذا لا يطمئن الكيان، ولكنها تعمل وفقاً لمصلحتها، ومستعدة لفرض ذلك بأقسى الأشكال على «إسرائيل» حتى وإن ساهم ذلك بانهيار الائتلاف الحاكم الحالي، وتفاقم الأزمة الداخلية في الكيان.
ما سبق، شكّل المناخ الملائم لما يجري تداوله في الصحافة الصهيونية منذ فترة، والذي ارتفعت لهجته بشكلٍ لا يصدق في الأيام القليلة الماضية، وتحديداً بعد الاتصال الذي جرى بين وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن ووزير الحرب «الإسرائيلي» بيني غانتس، الذي كان شديد اللهجة بشكل لم يعهده الكيان من قبل واشنطن من قبل.

لهجة غير مألوفة

الهجوم الأمريكي على الكيان حول بناء المستوطنات وتصنيف 6 منظمات للعمل المدني الفلسطيني كمنظمات إرهابية كان غير متوقع بالنسبة لعدد من الإعلاميين الصهاينة، ففي مقال نشره موقع «جيروسلم بوست» للكاتب ديفيد وينبرغ قال فيه مستفسراً «ما الذي يدفع إدارة بايدن للتنمر على «إسرائيل» في هذه المسائل الآن؟ لماذا هذا النباح حول القدس والفلسطينيين والمستوطنات، على الرغم من أن المسؤولين الأمريكيين المحسوبين على الجناح اليساري في الإدارة الحالية يدركون أن السلطة الفلسطينية العنيدة والفاسدة لا تستحق أبداً أية جوائز من واشنطن! ولا توجد في المستقبل القريب أية عملية سلام واقعية». لم يكتفِ وينبرغ بما قاله، بل أضاف في محاولة تفسيره للتغيير في سلوك الإدارة الأمريكية إن ما يحدث هو ضغط مقصود تقوم به الإدارة الحالية لفرض الصفقة النووية على «إسرائيل» ويكمل ليقول إن «بايدن ينذر رئيس الوزراء نفتالي بينيت، قائلاً اخرسوا عن الصفقة النووية ولا تجرؤوا على إفشالها، وإلا ستجعل الولايات المتحدة حياتكم بائسة على الجبهة الفلسطينية.... بعبارة أخرى، بايدن ينهق بشأن القدس والفلسطينيين والمستوطنات بشكل أساسي لإجبار بينيت على الاستسلام فيما يتعلق بإيران».

التداعيات الداخلية

قراءة الصهيوني الموتور أعلاه في الموقف الأمريكي تعكس حالة الصدمة التي تسود داخل الكيان، فاستخدام هذه اللغة السوقية في شرح الموقف الأمريكي يدل على حالة التخبط ومنبع تعاظم السلوك العدواني داخل الكيان الصهيوني. وفي الحقيقة تعكس هذه الكلمات الفظة إلى حدٍ ما الموقف الأمريكي، واشنطن تطلب من «الإسرائيليين» أن يخرسوا فعلاً، وألا يعيقوا مصالح واشنطن أو استراتيجيتها الجديدة، حتى وإن نتج عنها وضع الكان في حالة شديدة من الضغط. هذا الطلب سيكون له ثمن باهظ في داخل الكيان أولاً. فموقف واشنطن يغذي أحد الأطراف المتصارعة داخل الحكومة القلقة، والخطر الوجودي المتعاظم يدفع الكيان وسياسييه إلى حالة من التخبط، ففي الوقت الذي يرى بعضهم أن الكيان يجب أن يوقف بناء المستوطنات، ليدخل في مناورة واسعة يراها ضرورية ضمن المتغيرات الجارية، يرى البعض الآخر، أن هذا إضرار في «مصالح إسرائيل» وأنه لا مجال للمساومة في هذه القضايا، كل هذا يدفع الائتلاف الحالي لحالة من التخبط وباتت التقارير التي تتحدث عن اقتراب انفجار أزمة سياسية جديدة شديدة التواتر، وتحدد ملامحها عبر تحديد أقطابها الثلاثة رئيس الوزراء نفتالي بينيت، ووزير الحرب بيني غانتس، ووزير الخارجية يائير لابيد، هؤلاء الذين شكّل تحالفهم آخر فرصة للكيان ليخرج من أزمته السياسية، مما يعني أن انفراط هذا التحالف يعني العودة في أحسن الأحوال إلى نقطة الصفر.

ما بين أولويات واشنطن وخيارات الكيان

أولويات واشنطن لن تتغير قريباً لتعود كما ألفها الصهاينة، بل ربما تزداد حدة التوترات بين الولايات المتحدة والكيان بشكل أكبر في الأيام والأشهر القادمة، وهناك احتمال جدّي لأن نشهد أوّل أزمة علاقات شاملة بين الإثنين منذ أن بدأت واشنطن باستخدام الكيان لمصالحها بعد بريطانيا.
يسأل أحد الصحفيين الصهاينة لماذا تستمر «إسرائيل» في خسارة النقاط الدبلوماسية؟ ويرى في سلوك الحكومة الحالية سلوكاً مشيناً ويفتقد لأبسط مقومات العمل السياسي. يغفل الصحفي، هو وعموم من يطرحون هذه الأسئلة، أن المشكّلة لا تكمن في انخفاض «براعة إسرائيل السياسية» أو عدم وجود مستشارين أذكياء في العلاقات العامة، بل إن المشكّلة تكمن في تغيير العالم من حولهم، فبايدن الذي كان قد قال سابقاً «لو لم تكن إسرائيل موجودة، لكان على الولايات المتحدة الأمريكية أن تخلق إسرائيل كي تحمي مصالحها» يرى وانطلاقاً من مصالح واشنطن تحديداً، أن سلوك الكيان في عدد من الملفات بات يتعارض مع أولويات واشنطن. فالكيان الصهيوني لن يكون أكثر قلقاً من واشنطن عندما يتعلق الأمر في برنامج إيران النووي، أو في إغلاق القواعد الأمريكية في المنطقة، فهذه القضايا تشغل بال الولايات المتحدة، وشكلت لوقت طويل مسائل مرتبطة بـ «أمن واشنطن» أيضاً، ولكنها لم تعد قادرة على علاجها بالشكلٍ القديم ذاته، ولذلك ترى واشنطن أن مشكلة الكيان اليوم أنه ليس قاعدة أمريكية يسهل نقلها بطائرات النقل العسكرية، ولذلك ترى أنه لا ضير في ترك الكيان لإعاقة تقدم الخصوم حتى آخر جندي صهيوني، وهو ما يدفع الكيان لهذا السلوك الانتحاري الذي سيساهم في إضعافه أكثر، ويعطي القضية الفلسطينية فرصة تاريخية لحلٍ يضمن مصالح الفلسطينيين وشعوب المنطقة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1042
آخر تعديل على الإثنين, 01 تشرين2/نوفمبر 2021 14:08