«صيغة موسكو» خطوة في طريق أفغانستان الوعر

«صيغة موسكو» خطوة في طريق أفغانستان الوعر

قلق أمريكي واضح بعد انتهاء أعمال اجتماع «صيغة موسكو» الذي عقد في 20 من شهر تشرين الأول الجاري، فعلى الرغم من تصريحات البيت الأبيض التي تتحدث بإيجابية عن هذا الاجتماع بعد انتهائه، إلا أن وقائعه ومخرجاته تعبّر عن حجم المساعي التي تبذلها الدول المشاركة لاحتواء محاولات الفوضى التي ترعاها واشنطن بالتحديد.

اعتذرت الولايات المتحدة عن حضور أعمال «صيغة موسكو» للمرة الثانية رغم توجيه دعوة لها، وما أن انتهت الاجتماعات حتى أطلت المتحدثة الرسمية للبيت الأبيض جين بساكي لتقول أمام وسائل الإعلام: إن واشنطن «تدعم هذه المفاوضات» وتذرّعت بأسبابٍ لوجستية منعتها من المشاركة في هذا الاجتماع، مؤكدة: أن بلادها قد تنضم لاحقاً إلى هذه المفاوضات. التصريحات الأمريكية هذه جاءت ردّ فعلٍ طبيعي على التقدم المستمر الذي تحرزه دول طوق أفغانستان في تأريض احتمالات الفوضى التي يمكن لها- في حال توسعها- أن تشكّل المصدر الأساسي لعدم الاستقرار في المنطقة بعد انسحاب القوات الأمريكية.

صيغة موسكو

يبدو أنّ توجس واشنطن من هذه الصيغة إنما ينبع من قائمة الدول المنضوية فيها، فإلى جانب الأطراف الثلاثة الأساسية «روسيا- الصين- باكستان» جرى توجيه دعوة إلى كلٍ من الهند، وإيران وكازاخستان، وقيرغيزستان، وتركمانستان، وأوزبكستان، بالإضافة إلى وفد رفيع المستوى يمثل حكومة طالبان الجديدة. واشنطن ترى مشكلة أساسية في قائمة المدعوين هذه، وهي أن جميع الدول التي حضرت الاجتماعات تسعى بشكلٍ جدي للوصول إلى حلٍ شامل في أفغانستان، يلبي الحاجة الملحة لحفظ الأمن والاستقرار، لا حرصاً على شعب أفغانستان فحسب، بل حرصاً على الأمن الوطني لدولهم بالذات، وهو نقيض ما تسعى له واشنطن. فالدول المجاورة لأفغانستان تستشعر حجم الخطر الذي يمكن أن ينشأ من اندلاع حرب أهلية بين طالبان وأطراف أخرى، وما لهذا الأمر من تداعيات على الأمن الإقليمي. وعلى الرغم من أن أفغانستان كانت تاريخياً ميداناً للتنافس الإقليمي، إلا أن الهدف العميق لـ «صيغة موسكو» هو إيجاد أرضية للتفاهم على أساس المصالح المشتركة لهذه الدول، وتحييد الخلافات القائمة بينهم.

قراءة في البيان الختامي

البيان الختامي المشترك لكل المشاركين في اجتماعات «صيغة موسكو حول أفغانستان» يؤكد ضمنياً: العمل في اتجاه يناقض برنامج الفوضى الذي تقوده واشنطن، ففي بنوده التسعة، يؤكد حرص الدول الموقعة على وحدة وسيادة أفغانستان، ويقر بالواقع الجديد الذي أدى لوصول حركة طالبان إلى السلطة، ويدعوها في الوقت نفسه لتحسين ظروف الحكم وتوسيع حجم التمثيل، لا على المستوى الإثني والطائفي فحسب، بل على المستوى السياسي في البلاد، مما يمهد لإنجاز المصالحة الوطنية. ومن جانبٍ آخر رحبّت القوى المجتمعة على تأكيد طالبان مجدداً على التزامها بعدم تحويل أراضي أفغانستان إلى منصة لتنفيذ أعمال عدائية تجاه دول الجوار، وما يترتب على ذلك من محاربة التنظيمات الإرهابية التي تنشط في البلاد بشكلٍ متزايد. الإشارة التي وردت في آخر بنود البيان الختامي تشكّل مصيبة أخرى بالنسبة لواشنطن، فالأطراف الموقعة والتي تعبّر مجتمعة عن قوة بشرية، واقتصادية، وعسكرية، وسياسية هائلة على مستوى العالم، ترى أن المسؤولية الأولى في إعادة الإعمار الاقتصادي تقع على عاتق القوات الأجنبية التي تواجدت في أفغانستان في العشرين سنة الماضية، أي القوات الأمريكية وحلفائها من الدول الغربية، الذين سيجدون أنفسهم مجبرين أمام هذا التوافق الدولي والإقليمي على دفع فاتورة باهظة لقاء حربهم القذرة.

الطريق ما يزال طويلاً

قائمة المشاكل الموضوعة على جدول الأعمال لا تزال تحتاج إلى عملٍ جاد ومكثف، فالولايات المتحدة ورغم تراجعها المتسارع، إلا أنها تمسك جملة من الأوراق التي ستظهر الأيام القادمة حجم تأثيرها في الملف، فمن جهة يتعاظم نشاط تنظيم داعش وأعماله التي بدأت باستهداف البنية التحتية، مما أدى مؤخراً لانقطاع الكهرباء عن أكثر من 4,5 مليون إنسان، ومن جهة أخرى تعمل الولايات المتحدة على إعادة تجميع صفوف القوى السياسية التابعة لها في إطار جديد، فجرى الإعلان عن «المجلس الأعلى للمقاومة الوطنية لمعارضة طالبان» ضم بين صفوفه ممثلين عن أحزاب إسلامية أفغانية وعدداً من أفراد القيادة السابقة المنصّبة أمريكياً. مصدر الخطر الأساسي، هو أن تنجح هذه القوى في حشدٍ قوة شعبية واسعة في وجه طالبان، مما قد يقود البلاد لمواجهات شعبية واسعة. حظوظ «المجلس الأعلى» الجديد لا تزال منخفضة فهو إطار جامع لقوى خسرت المعركة منذ أيام، وكانت أهم أسباب خسارتها هي أرضيتها الشعبية المنخفضة، فطالبان نجحت بسرعة بتفكيك أجهزة الحكم السابقة التي بات جزء واسعٌ من أفرادها مقيماً في مخيمات اللجوء في الخارج. لكن طالبان نفسها تعاني من مشاكل جدّية، فبنيتها الحالية المتطرفة لا تسمح لها أن تتحرك دائماً بالمرونة المطلوبة، وهي وعلى الرغم من التأكيد الدائم لقيادتهاـ تحتاج للبحث عن أرضية أوسع تمثيلاً، مما يفرض على الحركة خلع ثوبها القديم الذي بات معيقاً في المرحلة الحالية، نجاح طالبان في هذه المسألة لا يقع على عاتقها فحسب، بل على عاتق دول الجوار التي من شأنها أن تمارس ضغطاً في الاتجاه المطلوب، حديث الرئيس الروسي حول وجود طالبان على قائمة الإرهاب حتى اللحظة يلخص المسألة، فبوتين في تصريحاته في الجلسة العامة لمنتدى فالداي، قال: إن الأمم المتحدة وضعت طالبان على قائمة الإرهاب، والاعتراف بها يجب أن يمر عبر الأمم المتحدة أولاً، ورغم أنه أشار إلى أن الأمور تمشي نحو رفع اسم طالبان من هذه القائمة، لكن هذا يفرض على الحركة المتطرفة الكثير لتنجح في تثبيت أقدامها فعلاً، وتحوز ثقة المجتمع الدولي.
يُكثف ملف أفغانستان اليوم جملة التناقضات التي راكمها سلوك واشنطن في العقود الماضية، وسلوك بريطانيا من قبلها، ولكنه يحمل في طياته في الوقت نفسه ملامح عصرٍ جديد يسمح بكتابة صفحات جديدة في تاريخ المستعمرات القديمة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1041
آخر تعديل على الإثنين, 25 تشرين1/أكتوير 2021 23:48