انتزاع الحرية من حصن «جلبوع»: عندما تخلق الضرورات مُصادفاتها المؤاتية
في ليلة الخامس من أيلول الجاري، وفجر اليوم التالي نجح 6 أسرى فلسطينيين في الهرب من سجن جلبوع المحصن، والخاضع للإجراءات الأمنية المشددة في شمالي الأراضي الفلسطينية المحتلة. خطة الهرب المحكمة التي استمرت لشهور طويلة فتحت الباب واسعاً- ورغم اعتقال أربعة من الأحرار الستة حتى اللحظة- لنقاش ما هو أبعد وأكثر امتداداً من نفق الحرية الذي قاد الأسرى إلى خارج الكتلة الخرسانية الضخمة.
تسلسل الأحداث شكّل صدمة داخل الكيان الصهيوني، لا بسبب خطةٍ عبقريةٍ ابتدعها السجناء الستة، بل على العكس تماماً! فالخطة- وعلى الرغم من الكفاءة السياسية والعسكرية العالية للأبطال الستة- تعد شديدة البساطة، والأكثر من ذلك أنها تطابق خطة قديمة جرى تنفيذها في السجن ذاته في 2014، وعلى الرغم من كل ذلك نجحت هذه الخطة لتشغل الكيان وتلهب قلوب أصحاب القضية ومناصريهم.
سلسلة الصدف!
حاول 8 أسرى في العام 2014 حفر نفق تحت حفرة المرحاض الموجود داخل أحد الزنازين مستغلين خللاً في بناء السجن، وعلى الرغم من أن إدارة السجن أحبطت هذه المحاولة واكتشفت الخلل الهائل في وقتها، إلا أنها لم تستطع معالجة الحادث خلال السنوات التي تلت، مما سمح للأسرى محمود ومحمد عارضه ويعقوب قادري وأيهم كممجي وزكريا زبيدي ومناضل انفيعات من النجاح في محاولة ثانية بعد 7 سنوات.
المفارقات الفريدة لا تنحصر في الخطة بحد ذاتها، فثلاثة من الأسرى الستة جرى تصنيفهم بأنهم شديدو الخطورة بعد محاولة سابقة لحفر نفقٍ خارج السجن، وعلى الرغم من ذلك جرى وضعهم في زنزانة واحدة، ثم وقبل يومٍ واحد من العملية طلب السجين زكريا زبيدي نقله إلى زنزانة رفاقه، ووافقت إدارة السجن على الطلب دون أن تستشعر الخطر، مما يدل على أن استخبارات السجن لم تكن على علمٍ بأن سجناء يسعون للهرب منذ أشهر، رغم أن عمليات التفتيش الروتينية التي تتم في الزنازين، والتي تبحث عن أنفاقٍ محتملة. والأكثر غرابة من هذا أن السجناء الذين عبروا 25 متراً تحت سجن جلبوع خرجوا على بعد أمتارٍ قليلة من سوره الحصين، وتحت برج المراقبة الذي تقول المعلومات أن حارسته المكلّفة بالمناوبة غطّت في نومٍ عميق، ولم تر السجناء وهم يخرجون من فتحة في الأرض تحت عينيها تماماً، لتكتمل القصة بأن «صدفةً طارئةً» أخرى منعت الحارس في غرفة كاميرات المراقبة من مشاهدة عملية الفرار، التي رصدتها كاميرات المراقبة الحديثة لأكثر من 20 دقيقة، والتي اعتمدت عليها إدارة السجن لاحقاً لتعلم الاتجاه الذي انطلق فيه الأسرى.
غرفة عمليات بحجم الكيان
تعتبر تكاليف السجون داخل الكيان الصهيوني الأعلى عالمياً، فقد بلغت ميزانيتها في عام 2020 حوالي 1,3 مليار دولار، بالإضافة إلى تفريغ سجّان لكل اثنين من الأسرى الفلسطينيين، وعلى الرغم من ذلك لم تدرك إدارة السجن خروج الأسرى إلى بعد سلسلة من البلاغات الخارجية، ليطلق الكيان بعدها حمّلة عسكرية وأمنية هائلة لإلقاء القبض عليهم. واجتمع في غرفة العمليات رئيس وزراء الكيان نفتالي بينيت، ووزير الحرب بني غانتس، ووزير الأمن الداخلي عمار بارليف، ورئيس جهاز الشاباك نداف أرغمان، ومفوض مصلحة السجون كاتي بيري، ومفوض الشرطة كوبي شبتاي، حيث قاد المجتمعون عملية البحث التي نفذتها 4 كتائب قتالية، و7 سرايا من جيش الاحتلال، مع استنفار شامل في كافة أنحاء البلاد التي زرعت فيها قوات الاحتلال 260 حاجزاً جديداً لتضيق الخناق على الأسرى. التكاليف التقديرية للعملية التي لا تزال قائمة حتى اللحظة تصل إلى 5 ملايين دولار لليوم الواحد، عدا عن تكاليف تشغيل غرفة العمليات والكتائب القتالية التي من المتوقع أن يزداد عددها أكثر.
وعلى الرغم من كل هذه الطاقات التي وضعت في عملية البحث بالإضافة إلى كل تقنيات البحث المتطورة، والتي تعتمد على «التطور الاستخباراتي العالي لجيش الاحتلال» لم يتمكن آلاف المقاتلين الصهاينة من العثور على الأسرى، إلا بعد أن استعانوا بأنوف ومهارة بعض مقتصي الأثر من البدو، الذين جرى تجنيدهم في وحدة «مرعول العسكرية» التي تضم البدو في صفوفها بشكلٍ أساسي، والتي أسست منذ سبعينات القرن الماضي.
خلاصات أوليّة
تحاول العناصر الانهزامية التابعة، وبمساندة واسعة من وسائل الإعلام، تصوير الحدث بوصفه حبكة بوليسية لإحدى قصص الأفلام التجارية، التي تنتهي بإلقاء القبض على الأسرى الذين وجدوا أنفسهم بعد خروجهم من «نفق الحرية» أمام واقعٍ أشد صعوبة في أرضٍ محتلة تضج بجنود وحواجز الاحتلال. يغفل هؤلاء حالة الغليان المتصاعدة داخل الأراضي المحتلة، ويغفلون أن 40 عملية جرت في 48 ساعة في محاولة لتضييق الخناق على الاحتلال الذي وجد نفسه أمام سيناريوهات مفتوحة بعد العملية البطولية التي جاءت كدليل جديد على حالة التداعي التي يعيشها الكيان.
الظروف الفريدة التي جرت، والتي مكّنت الأبطال الخروج من سجن جلبوع الملقب بالـ «خزانة» تحتاج إلى فهم أعمق، فاجتماع سلسلة الفرص التي سنحت لهم بشكل صدف عرضية، إضافة لتوفر العزيمة والإصرار على الاستفادة منها، والتخطيط والتنفيذ لما يلزم لذلك، لا يمكن قراءتها إلا انطلاقاً من كونها تجليات للضرورة! والتي تمتزج فيها بدورها شبكة معقدة من ضرورتين بارزتين أساسيتين تضافرتا معاً، ووجدتا طريقهما عبر سلسلة مناسبات تصادفية، وهاتان الضرورتان هما: التراجع الضروري للعدو الصهيوني المحكوم بأزمته بوصفها جزءاً من أزمة المنظومة الإمبريالية المتراجعة عامةً، والضرورة المكملة لها المتمثلة بتقدم القوى التحررية والثورية التي تعتبر الحركة الأسيرة جزءاً حيوياً منها. فلا بد أن تقودنا آلاف الصدف التي تجري في الأراضي المحتلة مؤخراً إلى تلك الرابطة التي تظهر عند توفر ظروفها الموضوعية كافة. إدراك هذه الحقيقة يعني أن ما يجري ورغم تجلياته التصادفيّة إلا أنه يعبر عن حالة التداعي الضروري والأزمة المحكومة بقوانين موضوعية، والتي يمر بها الكيان وستنتج بالضرورة آلاف آلاف الصدف والسوانح القادمات.
في سجون الكيان الصهيوني يوضع الأسرى الفلسطينيين حسب فصائلهم، فالكيان يرى في ذلك ظرفاً ملائماً لضبط سجونه، ولهذا سعى دائماً لترسيخ هذه الحالة خارج الزنزانات، فباتت الفصائل الفلسطينية بانقسامها الطوعي هذا داخل زنزانة في سجن الكيان الكبير. إن كان الظرف الموضوعي اليوم يسمح للفصائل بإنهاء حالة الانقسام هذه- والتي عبّرت عنها الزنزانة التي خرج منها الأسرى الستة- فإن استمرار هذه الحالة لا يعكس إلا عجزاً ذاتياً لدى هذه الفصائل التي باتت تشهد أن سلطة التنسيق الأمني اليوم لعبت في قضية الأسرى وغيرها من الأحداث دوراً لا يتعدى دور كلاب الاحتلال المدربة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1035