الخروج الأمريكي ومساعي تكيّف المنظومة العراقية مع الوقائع الجديدة
اجتمع يوم الاثنين 26 تموز كل من رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي والرئيس الأمريكي جو بايدن في العاصمة الأمريكية واشنطن، لبحث «التعاون الإستراتيجي» بين البلدين و«وجود القوات الأمريكية»، وخلص الاجتماع إلى إنهاء وجود «القوات القتالية» الأمريكية في العراق بحلول نهاية العام الجاري، لتطفو جملة من التساؤلات حول معنى هذا الأمر، وما إذا كان الأمريكيون سيخرجون فعلاً أم لا؟
الإجابة عن السؤال السابق بكل اختصار هي: نعم، إلّا أن ما تجري المناورة حوله هو توقيت وموعد هذا الخروج، وما سيخلّفه من توترات. وكيف يمكن للولايات المتحدة من التحكم بالعراق عبر أذرعها «غير المقاتلة».
الفصل بين القوات المقاتلة وغير المقاتلة
لا يُعد الفصل في القوات العسكرية الأمريكية بين «مقاتلة» و«تدريبية/استشارية» أمراً جديداً، وهو لم يظهر خلال اجتماعهما لأول مرة، بل صيغ وبدأ طرحه بعد اعتماد القرار البرلماني العراقي في شهر كانون الثاني من عام 2020 القاضي بخروج القوات الأجنبية كاملة من البلاد، كمحاولة للالتفاف عليه.
ما ينبغي التأكيد عليه، هو أن اتفاق الرئيسين على إنهاء عمل القوات «القتالية» يُعد بنفسه تراجعاً أمريكياً من المنطقة، وإن لم يكن بالشكل الكافي والمطلوب تماماً، إلا أنه خطوة هامة في هذا الاتجاه، ومن زاوية أخرى، يشكل أيضاً اعترافاً أمريكياً بعدم قدرتهم على مجابهة الضغط القانوني والسياسي والشعبي لتواجدهم العسكري، ليكون تنازلاً بشكلٍ واضح، ورضوخاً للمجريات والظروف الجديدة.
فرغم أن الاتفاق السابق لا يفضي إلى انسحاب القوات الامريكية تماماً، إلا أن مسألة إنهاء الوجود تلك تعني أنه سيجري تخفيضٌ بعدد هذه القوات، وأياً يكن، فهو حلقة جديدة من حلقات التراجع والانسحاب السابقة والماضية قدماً، فالولايات المتحدة التي تجد نفسها مضطرة للانسحاب تحاول إدارة هذا الانسحاب عبر إبقاء القوات التدريبية والاستشارية التي ترى لديها القدرة لإدارة العراق من خلال التحكم بالسلطة التابعة، لكن الخطوة الأمريكية هذه لا تعتبر مضمونة النتائج، فهناك عوامل عديدة تمارس ضغطاً لا على القوات الأمريكية المقاتلة فحسب بل على كل أشكال الوجود الأمريكي في المنطقة، ويمكننا حصر هذه العوامل، بالتطورات الدولية بما فيها اشتداد الأزمة الأمريكية وصعود أطراف دولية أخرى بمواجهة واشنطن، والرفض الشعبي والشامل لهذا الوجود، وتأكيد فصائل المقاومة العراقية على استمرار تصعيدها واستهدافها للوجود الأمريكي في البلاد وصولاً إلى إنهائه فعلياً.
الأولوية الداخلية
من الأمور الواجب الإشارة عليها وتوضيحها، أن الجانب الأكثر جوهرية من الوجود الأمريكي نفسه، والذي يحافظ عليه أساساً، يكمن داخل العراق نفسه، بمنظومة حكوماته السابقة والحالية– أول من طرح ثنائية قوات قتالية/تدريبية كانت الحكومة العراقية نفسها- مما يذكّر بأن الأولوية، وجذر المشكلة، لا يزال هنا كعامل داخلي وأساسي في البلاد، وضمن هذا السياق فإن انسحاب القوات الأجنبية بشكل كامل من العراق لا يمكن أن يحل أزماته الداخلية دون تغيير عميق لهذه المنظومة بما يتلاءم ويتوافق مع المصالح الشعبية.
إنّ واحدة من المهام الرئيسية التي أوكلت إلى الحكومات العراقية السابقة لحكومة الكاظمي (منذ زمن إياد علاّوي على أقل تقدير)، وتبعتها حكومة الكاظمي منذ تشكيلها وحتى الآن، هي محاولة تكييف المنظومة العراقية اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً مع الظروف الجديدة المتمثلة بالتراجع الأمريكي، لتقليص مخاطر واحتمالات القطع ما بين الشريكين (منظومة بريمر وواشنطن)، وشيطنة الدور الإيراني وتقويض نفوذه، وإضعاف العلاقات العراقية الإيرانية إلى حدودها الدنيا بوصفها العدوّ الأول والأقرب للشريكين على حدٍّ سواء، والاستعاضة عن هذه العلاقات وهذا النفوذ بغيرها من الدول العربية الواقعة ضمن الفلك الأمريكي (الأردن– مصر– السعودية).
الطاقة مثالاً
لقد سادت خلال الأشهر السابقة حملة تستهدف أبراج نقل الطاقة الكهربائية في العراق، وقد نشرت شرطة حماية الطاقة في العراق نسخة كتاب تداولتها وسائل إعلامية مختلفة توضح حصيلة الاستهدافات لأبراج الطاقة منذ بداية العام الجاري حتى 10 تموز، والتي بلغت 106 أبراج، موضحةً أن مجموع الخطوط التي تعرَّضت للتخريب هي 54 خطاً ضمن 50 عملية استهداف، وكانت أصابع الاتهام على طول الخط تتوجه إلى خلايا «داعش» التي لا تزال نشطة في العراق، ولكن الجديد بالأمر، هو ما برز خلال الفترة الماضية من أخبار وأقوال غير رسمية يدلي بها ويتداولها العراقيون ونشطاؤهم على مواقع التواصل الاجتماعي تفيد بأن غالبية أبراج نقل الطاقة الكهربائية التي يجري استهدافها– إن لم تكن جميعها– هي خطوط لنقل الطاقة الكهربائية المستوردة من إيران، الأمر الذي لا يبدو مستغرباً ضمن السياق العام لتطور الأحداث، خاصةً بتركيبه مع مساعي شيطنة الدور الإيراني، وأزمة الاستحقاقات المالية السابقة بين طهران وبغداد حول موارد الطاقة منذ بضعة أشهر، وأخيراً خطوات حكومة الكاظمي نحو إيجاد موارد طاقة كهربائية بديلة من دول الجوار.
المياه أداة توتير أخرى جديدة
قام وزير الموارد المائية العراقي، مهدي الرشيد، في 10 تموز بتهديد طهران باللجوء إلى المؤسسات الدولية لاستحصال حقوق العراق المائية من إيران، بما يعني تدويل الأمر ليشمل الأمم المتحدة ودول أعضاء مجلس الأمن الدولي، وتعقيد المسألة، ليفتح بذلك باب تصعيدٍ سياسي جديد- من قبل القوى العراقية التابعة لواشنطن- على إيران خلف ذرائع عدّة، ولتبقى الآن كورقة توتير بيد الحكومة العراقية، فضلاً عن قيامها بزيارات إقليمية وحشد دعمٍ إلى جانبها بهذا الأمر.
موردو بدائل أم ناهبون يطيلون عمر المنظومة؟
في سياق تكيّف المنظومة العراقية مع الظروف الجديدة وإيجاد البدائل، وقعت حكومتا الأردن والعراق في شهر أيلول من العام الماضي عقداً لربط الشبكة الكهربائية بين البلدين، وفي كانون الأول ادّعى الجانب الأردني بأنه سيكون جاهزاً لتزويد العراق بالطاقة الكهربائية في عام 2022، لكن لم تَصدرْ إلى الآن أية أخبار تؤكد أن العمل سارٍ على هذا الربط، رغم أنّ ذلك لا يعني النفي بالضرورة.
ليجري يوم الخميس من منتصف تموز لقاءٌ مشترك بين وفدين عن الحكومة الأردنية والعراقية في العاصمة بغداد، لبحث مسائل الطاقة والنفط والكهرباء تنفيذاً لمخرجات القمة الثلاثية العراقية- المصرية- الأردنية التي عقدت في شهر حزيران، والتي تتعلق بالتعاون في ملف الطاقة، ليعلن وزير النفط العراقي إحسان عبد الجبار إسماعيل، أن مجلس الوزراء وافق على تجديد عقد بيع النفط الخام إلى الأردن بكمية 10 آلاف برميل يومياً، وأن «مشروع أنبوب البصرة- العقبة المزمع إنشاؤه بين العراق والأردن لتصدير النفط الخام يحظى باهتمام الوزارة».
ولكن من الملفت هو ما يجري حالياً، وما يتضمنه المشروع المزمع من تفاصيل تداولها نشطاء ومحللون عراقيون كان منهم موقع الحوار المتمدن للكاتب آدم الحسن، ومما جاء بها هو أن العراق يقوم حالياً بتصدير النفط بالسعر المدعوم، بينما يستورد من الأردن المشتقات النفطية المكررة بأسعار السوق العالمية، وبينما يتحمل الأردن حالياً كلفة نقل النفط المدعوم من العراق إليه بواسطة الشاحنات، إلّا أنه بعد إنجاز مشروع أنبوب البصرة- العقبة سيقوم العراق بدفع رسوم نقل الشاحنات تلك، إضافة إلى رسوم الترانزيت بتكلفة 6 دولارات عن كل برميل نفط يمر عبر الأنبوب، وأخيراً، إنشاء مصفاة لتكرير النفط العراقي في العقبة بالأردن، عوضاً عن سعي الحكومة العراقية لبناء مصافي تكرير خاصة في العراق؟
إن الغاية خلف هذه التنازلات التي تقوم بها الحكومة العراقية، مقابل الحدّ من التعاون الإيراني خاصة، والشرقي عامةً، ذا الشروط الأفضل، هي محاولة يائسة لاستمرار بقاء هذه المنظومة وربحها ونهبها بفتح الباب لناهبين آخرين يقفون كتفاً بكتف في وجه مصالح العراقيين.
ولكن ما يلفت الاهتمام، وبناء على البيانات المنشورة على الموقع المذكور، والتي تذكّرنا بحقيقة مرة للغربيين، هو أن الدول الثلاث ذات التبادل التجاري الأكبر مع العراق حسب التسلسل هي: الصين 30 مليار دولار، وتركيا 20 مليار دولار، وإيران 8 مليار دولار سنوياً، مما يعني مفارقة كبرى بين الواقع الاقتصادي الجاري والتوجه السياسي اليائس الذي تسعى إليه المنظومة العراقية.
الانتخابات العراقية: إعلان أو فشل التكيّف الجديد نحو أزمة أكبر؟
كان من المقرر أن تجري الانتخابات العراقية في شهر حزيران الماضي، وجرى تأجيلها لأسباب مختلفة حتى تشرين الأول المقبل، وسط خلافات عميقة بين الكتل السياسية في منظومة المحاصصة، ومن الملفت حتى الآن، ما جرى تداوله في وسائل الإعلام عن خلو الانتخابات العراقية من مرشحين تولوا في السابق منصب رئاسة الوزراء، ورغم أنّ هذا التفصيل لا يعني شيئاً بالمعنى السياسي، فتغيير الوجوه يعدّ أمراً شكلياً صرفاً، إلّا أن ما يبدو هو محاولة لتكريس هذا الأمر بالذات، كجزء من عملية إيهام العراقيين بأن الانتخابات المقبلة ومرشحيها وما سينتج عنها هو «تغيير»! بالتوازي مع الإيهام بأن الاتفاقات التجارية الإقليمية الجديدة ستصب في مصلحة العراقيين.
لكن حتى الآن، لقد انسحبت العديد من الكتل والأطراف السياسية من الانتخابات، وأعلنت مقاطعتها، منها: تحالف المنبر العراقي بقيادة إياد علاوي، والتيار الصدري بقيادة مقتدى الصدر والذي أعلن منتصف الشهر الماضي بأن ««ما يحدث في العراق، هو مخطط لإذلال الشعب العراقي».
لكن رغم ذلك أكد الكاظمي ومن بعده المفوضية العليا المستقلة للانتخابات في العراق، بأن 10 تشرين الأول هو موعد حتمي لإجراء الانتخابات، وجاء ذلك بعد اللقاء العراقي الأمريكي، ليبدو أن مرحلة الانتخابات المقبلة ستكون مفصلاً أساسياً تحمل توترات عديدة تكبر، وتتوازى مع توقيت إنهاء الوجود الأمريكي المزمع.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1029