هل هي «بداية نهاية أوكرانيا» فعلاً وبأي معنى؟

هل هي «بداية نهاية أوكرانيا» فعلاً وبأي معنى؟

عاد الملف الأوكراني ليتصدر المشهد هذا الشهر، حيث يجري تحشيد عسكري أوكراني على خط التماس مع منطقة دونباس (جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك المعلنتين ذاتياً)، وتحركات عسكرية روسية قرب الحدود الأوكرانية وفي شبه جزيرة القرم، وبينما تؤكد موسكو بأن تحركاتها العسكرية داخل حدودها هي شأن داخلي ودفاعيّ، رداً على تحركات القوات الأوكرانية المدعومة غربياً في وقت سابق، بالإضافة إلى الحديث عن إقامة مناورات عسكرية مشتركة تجمع القوات العسكرية الأوكرانية وحلف الشمال الأطلسي «الناتو» في منطقة البحر الأسود، يعمد الأوكرانيون والغربيون خلفهم على اقتطاع تطور الأحداث والانطلاق من التحركات الروسية بوصفها البادئ في الاستفزازات الأخيرة، ويصاحب هذه التطورات العسكرية تصعيدٌ سياسي تقوده كييف والولايات المتحدة الأمريكية، وليبدأ الحديث إثر ذلك عن احتمالات نشوب حربٍ روسية- أوكرانية أو حتى روسية- أمريكية.. فما مدى جدية هذه الاحتمالات، وما المتوقع حدوثه؟

إضاءة سريعة للماضي

تعود جذور الأزمة الأوكرانية وعلاقة روسيا بها إلى مرحلة انهيار الاتحاد السوفييتي، حيث بدأت الخلافات على عدد من المناطق ومنها دونباس والقرم بكونها أراضٍ روسيّة أم أوكرانية؟ فضلاً عن موقع أوكرانيا ضمن الخريطة الجيوسياسية بوصفها غربية أم شرقية، وبينما يحلو للمؤرخين والمحللين أن يتكلموا حول رغبات «الدولتين» بهذه الأراضي وأحقيتها لأيّ منهما، يتناسون الشعوب المعنية بهذا الأمر ولصالح أي جهة يعلنون انتماؤهم. بالمرحلة قبيل وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي سادت حالة خلاف لدى الأوكرانيين برغبتهم الاصطفاف مع الغربيين أو الروس سياسياً، تلاها عدة احداث وتطورات، وبعضها يشكل «انقلابات» سياسية حكومية تارةً لصالح هذا الطرف وتارة للآخر، وصولاً إلى النقطة الأخيرة حين أعلن الرئيس الأوكراني السابق فيكتور يانكوفيتش تعليق اتفاقية الشراكة واتفاقية التجارة الحرة مع الاتحاد الأوروبي، مما يعني تقليص التعاون مع الغربيين، لينتج عن ذلك موجة احتجاجات كبيرة في عام 2013، مقادة من يمينيين أوكرانيين مدعومون غربياً، وصلت لذروتها في العام التالي وأطاحت بحكومة يانكوفيتش، ليتلوها حكومة بوروشينكو 2014 ومن بعدها حكومة زيلينسكي في 2019 إلى الآن.

كان واضحاً بالنسبة للأوكرانيين الدوافع السياسية خلف هذا «الانقلاب»، لتتصاعد كردّ فعلٍ عليه أصوات الانفصال في كل من القرم ودونباس في عهد بوروشينكو... وليجري استفتاء شعبي في القرم عام 2014 صوّت فيه 96% من سكان الجزيرة لصالح الانضمام لروسيا، أما في دونباس فقد أعلن سكانها جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك ذاتياً... أي وبالمختصر، فما كسبه الغربيون بتدخلاتهم في أوكرانيا بمحاولات استيلائهم على السلطة مؤقتاً، خسرته الحكومات التابعة لها نفسها لصالح روسيا على المدى الطويل والدائم، من قبل الأوكرانيين أنفسهم.

لم تقبل أو تعترف حكومة بوروشينكو السابقة، أو حكومة زيلينسكي الحالية بإعلان دونباس ذاك على أي حال، وظل الصراع المسلح مستمراً بين مقاتلي المنطقة والجيش الأوكراني. بعد مرحلة من استمرار التصاعد تمكن الروس والأوكرانيون من الاجتماع في مينسك/بيلاروسيا وبحث كيفية حل الأزمة سياسياً، نتج عنه ما بات يعرف بـ «اتفاق مينسك» والذي ينص على وقف إطلاق نار شامل، وحل الأزمة سياسيا عبر الحوار والتفاوض، وإعلان دستور جديد ينصّ على حق منطقة دونباس بإدارة شؤونها ذاتياً دون الانفصال، لكن سرعان ما عادت حكومة بوروشينكو إلى خرق حالة وقف إطلاق النار ونشطت الأزمة بشكلها العسكري مجدداً، مما استدعى لاحقاً إنشاء صيغة دولية عرفت بـ«صيغة نورماندي» الرباعية، ضمّت روسيا وأوكرانيا وألمانيا وفرنسا، لكنها لم تنجح بفرض وقف إطلاق النار حتى اجتماعها الثاني في 2019.

منذ ذاك الوقت كان الظرف العسكري هادئاً بإطاره العام، رغم حدوث خروقات بين وقتٍ لآخر، وصولاً إلى المرحلة الحالية...

الظرف الدولي ورغبة زيلينسكي

تحاول الولايات المتحدة الأمريكية، وعبر كل الملفات والأزمات المشتعلة دولياً، أن تورّط موسكو بها بمعارك مستنزفة بغية إضعافها، وشيطنتها، فضلاً عن تفجير مناطق النزاع هذه لصالح واشنطن ومشروعها، وتشكل أوكرانيا نقطة واحدة من العديد غيرها.

ما نحاول قوله هنا، أنه لا يمكن فصل تطورات أوكرانيا عن التطورات الدولية عموماً، أو الانطلاق منها وحدها، فبعد أن فشل الأمريكيون في الفترة السابقة عن تثمير أزمة قره باغ لصالحهم، وخسروها لصالح التسوية السياسية والتهدئة، يحركون الآن من جديد «حجر» أوكرانيا ضمن رقعة الشطرنج هذه.

بدأت الاستفزازات عملياً بشكلها السياسي منذ العام الماضي، حين أعلنت كييف أن أوكرانيا وروسيا في حالة حرب! ومؤخراً بالشكل العسكري قيام الجيش الأوكراني بتحشيد وتعبئة على خط التماس مع دونباس، وتنفيذه عملية قصفٍ مكثف على طول خط الجبهة في الثالث من الشهر الجاري، وقد جاء ذلك بعد اتصال أجري بين الرئيسين الأوكراني فلاديمير زيلينسكي، والأمريكي جو بايدن. بالتزامن مع عزم أوكرانيا والناتو قيامهم بمناورات عسكرية مشتركة سُميت «Defender Europe 2021» تحاكي حرباً مع روسيا، وبالنسبة لحكومة زيلينسكي فإن ما تطمح إليه فضلاً عن «الليبرالية» داخلياً وما تستثمره من نهب، هو تمتين موقعها عبر انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو، ولم يلبث الرئيس الأوكراني بالتعبير عن حلمه حتى جاءه الردّ من الجانبين الأمريكي حينما رفض المتحدث باسم وزارة الدفاع التعليق على طلب زيلينسكي ذاك، والألماني بقول نائبة المتحدث باسم الحكومة بأنه لا خطط حالياً لمنح أوكرانيا عضوية الناتو.

ما مدى الدعم الأمريكي حقيقةً، وما السبل المتاحة؟

إن احتمالات نشوب حربٍ روسية- أمريكية بعيدة، فحتى وإن افترضنا جدية واشنطن بالوقوف مع حكومة زيلينسكي، فإنها بأزمتها، وانقسامها، وتناقضاتها مع أوروبا، ومجمل محصلة تراجعها اليوم، لا يتيح لها أية إمكانية لهكذا مواجهة لا على المستوى الاقتصادي، ولا العسكري الذي كان، وبالأساس عنوانه خلال المرحلة السابقة والراهنة هو الانسحابات المُزمَّنة دولياً، وجلّ ما تقدمه هو الدعم السياسي الموارب الذي يهدف إلى تفجير أوكرانيا وسحب موسكو إلى التورط بها. وبالمثل مسألة الحرب الروسية- الأوكرانية، فلا مصلحة لأي من الدولتين، وأي من الدول الأوروبية الوصول إلى هذه المستويات، كما أن التجربة تؤكد ذلك في العديد من الملفات السابقة والشبيهة التي كان آخرها تهديد الصدام التركي- المصري في ليبيا، والأذربي- الأرمني في قره باغ.

إن طموحات الحل العسكري لا مكان لها في موازين القوى الدولية اليوم، والطريق الوحيد المفتوح أمام أزمة أوكرانيا هو الحل السياسي وتنفيذ الاتفاقات ذات الصلة، ومنها مينسك نفسه، وإلّا فإن الطريق البديل المطروح هو نفسه «الفوضى» الأمريكية، والتي عبّر عنها وحذّر منها نائب مدير إدارة الرئيس الروسي، دميتري كوزاك، بأن تجدد الأعمال القتالية في دونباس سيصبح «بداية نهاية أوكرانيا»، لما سيتبعه من إراقة دماء، وتفكك البلاد.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1013
آخر تعديل على الإثنين, 12 نيسان/أبريل 2021 14:04