بريكست وخروج المملكة المتحدة من اتحادها نفسه
قدّم جونسون «هديته» المتمثلة باتفاق ما بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي للبريطانيين ليلة عيد الميلاد، معتبراً ومسوقاً الاتفاق على أنه أمرٌ عظيم بالنسبة للملكة المتحدة ومواطنيها، إلا أن الاتفاق نفسه، وردود الفعل الأولية حوله ليست سلبية فقط، وإنما تشير إلى تبعات وأحداث قد تغيّر المملكة «المتحدة» نفسها.
يعتبر الكثيرون بأن مسألة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي مرتبطة بمصالح اقتصادية مباشرة و«عاجلة» بالنسبة لتيار جونسون، وما يمثّله من قوى اقتصاد ومال في الداخل البريطاني، إلّا أن الأمر في الحقيقة ليس بهذا التبسيط، فعلى الرغم من أن كل حدث وإجراء سياسي يحمل في عمقه مصلحة اقتصادية، إلّا أن هذه المصلحة لدى تيار جونسون تتعلق بـ«المدى البعيد» لا المباشر والآني، فيمكن القول وبكل اختصار: إن الاتفاق الذي جرى إعلانه ليلة الميلاد، بناء على جوانبه الاقتصادية، سيئٌ للغاية بالنسبة للمملكة المتحدة، فعلى الرغم من كل ما يشاع ويروّج حوله في العناوين العريضة بوصفه «اتفاقية تجارة حرة» تعفي الصادرات والواردات بين أوروبا والمملكة المتحدة من أية رسوم وجمارك على جميع السلع، إلا أن هذا الأمر ينسى حقيقة مفادها بأن العلاقات التجارية قد كانت كذلك أساساً حين كانت المملكة عضواً في الاتحاد الأوروبي، إذاً ما الاختلاف، وما السيء، وما مصلحة تيار جونسون بذلك؟
الاتفاق الجديد
إن الاتفاق الجديد المعلن، والذي سيدخل حيز التنفيذ في 1 كانون الثاني 2021، مكوّن من نص وبنود كثيرة موضوعة في حوالي 1200 صفحة، إلّا أن العناوين العريضة فيه وفق ما أعلنه جونسون ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين تشير إلى اتفاقية تجارة حُرة بما يعنيه ذلك من: عدم وجود رسوم جمركية على السلع والبضائع المتبادلة. وعدم وجود قيود على كمية السلع والبضائع المتبادلة. إلّا أن جونسون أعلن بأن «نظاماً جديداً للتعريفات الجمركية بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي سيفرض اعتباراً من مطلع العام القادم»، ويسمح الاتفاق أيضاً لكلا الجانبين بفرض تعريفات ورسوم جمركية في حال تقويض أحدهما لمصالح الآخر، وهذه الجزئية الأخيرة لوحدها تفتح باب احتمالات لا نهائية من الأمور التي قد تغيّر أو تعرقل «التجارة الحرة». في الوقت الذي كانت فيه بريطانيا أساساً تحظى بعلاقات تجارة حرة مع أعضاء الاتحاد الأوروبي من جهة، وفق الاتفاقات الاقتصادية ضمن الاتحاد نفسه، وعلاقات تجارية واقتصادية مع باقي دول العالم وفق اتفاقات الاتحاد الأوروبي نفسه أيضاً.
الغاية سياسية
المُتغيّر الآن بالنسبة لبريطانيا، وفق رؤى تيار جونسون، بشكل أساس وأولي، لا يتعلق بطبيعة العلاقات الاقتصادية الجديدة التي ستجري، وإنما بالموقف والمكان السياسي للملكة المتحدة باعتبار الأمر «استعادة لسيادتها» ومجدها و«استقلالها» عن القوانين الاقتصادية والتجارية والسياسية المفروضة عليها، والمُلزمة بها من قِبل الاتحاد الأوروبي، وهذا التوجه يتعلق بطبيعة ومصالح القوى اليمينية القومية التي تقود البلاد حالياً، حيث إن اتفاقات اقتصادية «أسوأ» بالنسبة لبريطانيا، لكنها تؤمن «سيادتها» و«استقلالها» ووفق «شروطها» أفضل من اتفاقٍ جيد كان موجوداً أساساً، لكنه مقوضٌ لها وملزماً عليها... وهذا يذكرنا بظاهرة ترامب نفسه و«أمريكا أولاً» وما فعله من انسحابات من العديد من الاتفاقات السياسية والتجارية دولياً (وفق وزن أمريكا الدولي– بريطانيا إقليمي) بغية تفرّد الولايات المتحدة وفك ارتباطها عن أية التزامات دولية.
تكتيك لمواجهة تطورات الأزمة الرأسمالية
إن رؤى تيار جونسون في مصلحة بريطانيا الاقتصادية تتعلق بـ«المدى البعيد»، حيث فكرة «الانكفاء نحو الداخل» لترامب تشابه ما تقوم به لندن، فاستعادة سيادتها على قراراتها الاقتصادية والتجارية بشكل مستقل ومتفرّد عبر الخروج من الاتحاد الأوروبي ليست الغاية النهائية بحد ذاتها، وإنما تكتيك وخطوة مؤقتة باتجاه عدة خطوات لاحقة وفق هذه الإستراتيجية، لتعزز الاقتصاد الداخلي وعلاقاته الخارجية بمواجهة الأزمة الرأسمالية الجارية، وما سينتج عنها لاحقاً، وأعرب جونسون ذلك بقوله: أن الاتفاق يعني «استقراراً جديداً وسيجلب حالة من اليقين للشركات البريطانية»، الشركات والرساميل البريطانية عموماً، وليس للبريطانيين كشعب، بصرف النظر عن مدى واقعية أو صحة هذه الرؤى وفق معطيات الحاضر وتطوره، والذي نعتبره غير قابلٍ للنجاح، بل وسيؤتي بتوترات داخل المملكة المتحدة تُهدد بفرط عقد وحدتها، إن لم يتوافق البريطانيون بوقف هذا المسار والتوجه، لا إلى مواجهة الأزمة الرأسمالية بسياسات رأسمالية، إنما بتغييرها جذرياً.
الآثار الجانبية
هناك عدة آثار جانبية للاتفاق الجديد، بدأ بعضها بالتفاعل مباشرةً، ومنها: مواقف مقاطعات اسكوتلندا وويلز، وقضية الإيرلنديين، بالإضافة إلى الأثر الاجتماعي عموماً بالعلاقة بين البريطانيين وباقي الدول الأوروبية، سواء بالعمل في الخارج، أو العمالة في الداخل، أو المنح الدراسية، وما سيؤثر به الاتفاق على سوق العمل والبطالة، وارتفاع قيمة السلع وانخفاض الأجور إلخ.. فضلاً عن أن الاتفاق قد جرى وأُعلن في لحظة جائحة الوباء الفيروسي وما تفرضه من إغلاقات عموماً، والمستجد داخل بريطانيا من «كوفيد المتحور» الذي أعلن عنه قُبيل الاتفاق خصوصاً، وأدى إلى إغلاقات أكثر صرامة، وهو ما نعتقد أن الحكومة البريطانية تستثمر بهذا الحدث بغية «قمع وخنق» ردود الفعل الشعبية داخل المملكة كامتصاصٍ لها.
فقالت رئيسة وزراء اسكتلندا نيكولا ستورجن: أن الوقت «حان لتصبح اسكتلندا دولة أوروبية مستقلة» معتبرة أنه «لا يمكن لأي اتفاق على الإطلاق أن يعوض عمّا أخذه بريكست منا» علماً بأن الغالبية الساحقة من الاسكوتلنديين قد صوتوا في 2016 ضد الخروج... ومقاطعة ويلز من جهة أخرى تطالب منذ وقت طويل بالاستقلال عن بريطانيا، لتتصاعد هذه الأصوات خلال الأيام السابقة منذ إعلان الاتفاق.
أما ما يخص الإيرلنديين، فالجزئية المتعلقة بكون حدود مقاطعة شمال إيرلندا (البريطانية) ودولة إيرلندا (المستقلة) مفتوحة دوماً أمام الإيرلنديين بحكم اتفاقات الاتحاد الأوروبي، ستتغير بعد الخروج، مما يهدد بإغلاق هذه الحدود، ويعيد بتذكير وفتح المسألة الإيرلندية القديمة المُعلّقة بلا حل حقيقي، ويذكي نارها من جديد.
ليكون بالمحصلة، أن أوصال المملكة المتحدة مُهددةً بالقطع: شمالاً اسكوتلندا، وغرباً إيرلندا، وجنوباً ويلز... ووفق هذه المستجدات فإن المضي بسياسات السفينة الرأسمالية الماضية نحو الغرق، يعني المزيد من التوترات الاجتماعية والسياسية داخل بريطانيا.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 998