الولايات المتحدة تتحدى مخيلتنا!
تقول الحكاية أن على الرئيس الأمريكي الذي خسر الانتخابات أن يوضب أغراضه ويستعد لمغادرة البيت الأبيض، بعد أن يرحب بسكانه الجدد بروح رياضية عالية، وابتسامة تطبع أمام مئات الكاميرات قبل أن يرحل. لكن الحكاية التي نتابعها الآن لا يمكن توقع أحداثها أبداً، ولعلّ أغرب ما فيها هو درجة خروجها عن حكايات «انتقال السلطة» المألوفة.
تعيش الولايات المتحدة بعد أن أُعلن رسمياً عن الفائز في الانتخابات الـ 46 للرئاسة، والتي جرت في تشرين الثاني من العام 2020 الجاري، حالة من التخبط. فالبروتوكول المرافق لهذه الانتخابات، والذي ينص على أن يستلم الرئيس الجديد الحكم في 20 من شهر كانون الثاني لم يعد مضموناً. ويترافق هذا التخبط بحالة من تصاعد العنف، فقد شهدت الولايات المتحدة تزايداً ملحوظاً لأعمال القتل والحوادث التي لم تعد تندرج تحت إطار الصدفة، بالإضافة إلى التفجير المريب الذي وقع في مدينة ناشفيل التابعة لولاية تينيسي، بعد أن انفجرت سيارة في صباح يوم عيد الميلاد، حيث وصفت شرطة المدينة الانفجار بأنه «متعمد» وقالت: بأن كمية المتفجرات المستخدمة لم يسبق أن استخدمت داخل الولايات المتحدة.
كيف يمكن قراءة ما يجري وهل يمكن التنبؤ بالنتيجة النهائية لكل هذا التخبط؟
معنى الاحتمالات الكثيرة
أصبح من السهل قراءة السيناريوهات الموضوعة للأحداث القادمة، فإذا أراد أيٌ من المهتمين ذلك، سيجده في كل الصحف والمجلات الدورية، بل باتت العناوين التي تعالج مستقبل الولايات المتحدة موجودة في كل مكان. لا ننكر بالطبع جنوح بعضها للخيال، أو العكس تماماً محاولة بعض المحللين تبسيط ما يجري وإقناع الجمهور بأنه حدث عادي سيمر دون الكثير من الفوضى. الثابت أن هذا الموضوع يعد الشغل الشاغل لمراكز الأبحاث والنخب السياسية، لكن ما يثير الانتباه حقاً هو أن الولايات المتحدة تواجه للمرة الأولى في تاريخها مصيراً مجهولاً، ويمكن القول: إن وجود هذا الكم الكبير من الاحتمالات يدل قبل كل شيء على حجم الكارثة المقبلة المتربصة بالولايات المتحدة. وجود هذه الاحتمالات يمنع كل القوى السياسية الفاعلة من وضع برنامجها للمرحلة المقبلة. فالبرنامج المعلن للرئيس المنتخب يحتاج شرطاً أساسياً لتنفيذه، وهو ببساطة وصوله إلى الحكم فعلياً، وهذا وبالنسبة لعددٍ من المحللين لا يزال موضوع نقاش بحد ذاته!
لا يعني الحديث السابق تبني أكثر السيناريوهات تطرفاً، لكنه يعني أنه لا مجال في بلدٍ يشهد هذه الدرجة من الانقسام، ويشهد في كافة ميادين الحياة هذا الكم من الأزمات العاصفة، أن تجري الأمور كما رسمت في مخطط أياً كان هذا المخطط! فهناك العشرات من هذه المخططات، ولا يمكن اعتماد أيٍ منها في ظرفٍ كهذا. فعلى سبيل المثال لا الحصر وفي مقال منشور في جريدة «نيوزوييك» الأمريكية: يصرّح أحد الضباط عن قيام مجموعة من القادة العسكريين في البنتاغون ذوي الرتب الرفيعة بوضع خطط للاحتمالات قد يجد الجيش نفسه مضطراً للتعامل معها، واللافت في هذا الخبر القول: بأن وضع هذه المخططات «يجري بعيداً عن أنظار البيت الأبيض»، لا بل يجري بعيداً عن أنظار أولئك الضباط في البنتاغون «المخلصين لترامب»، أي: إننا نتحدث في الحد الأدنى عن وجود شقاق بين مؤسسة الرئاسة والمؤسسة العسكرية التي يعد الرئيس فيها القائد العام للقوات المسلحة، وعن وجود شقاق داخل المؤسسة العسكرية نفسها، وهذا بحد ذاته يعني أسوأ السيناريوهات التي لن تسمح لنا مخيلتنا المحدودة حصرها.
الولايات المتحدة والحظ!
«الولايات المتحدة أكثر الدول حظاً في التاريخ الحديث»، هكذا يبداً البروفسور الأمريكي ستيفن والت مقاله المنشور في مجلة «فورن بوليسي»، والذي يستعرض فيه أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفرد «الحظ» الذي رافق الولايات المتحدة منذ نشأتها. لا يهمنا نقاش صدق تحليلات والت ولا نقاش «الحظ» الذي ينسب له الدور الأكبر في ظهور الإمبراطورية الأمريكية، لكن ما يهم هو اعترافه بنفاد هذا الحظ، فيذهب والت في مقاله بعد العرض التاريخي- السياسي لذكر الأسباب الأربعة التي تؤدي إلى تراجع حظوظ الولايات المتحدة، فيذكر أن بلاده تمتعت بميزة «الأمن المجاني» منذ تأسيسها، فلا أعداء قريبون من حدودها، ولم تتوقع هجوماً من كندا أو المكسيك، ويفصلها عن العالم محيطات شاسعة، لكن هذا لم يعد كافياً، فوالت يرى أن جائحة كورونا كانت عدواً خطراً كلف الولايات المتحدة ضحايا أكثر من ضحايا حروبها مجتمعة، وكل ذلك في أقل من عامٍ واحد. ويذكر في مقاله مثلاً آخر، وهو تعرض بلاده لهجمات سبرانية والتي استهدف بعضها مؤسسات معنية بالأمن القومي. وتشكّل هذه الأمثلة دلائل على أن الولايات المتحدة لا تملك درعاً حديدياً يحميها من المخاطر الجديدة المحدقة، بل على العكس تماماً، فهي هشة تتعرض لمخاطر غير مألوفة.
بالطبع، لا يغيب عن أستاذ العلاقات الدولية أن يضع الصين ضمن قائمة الأسباب التي حرمت الولايات المتحدة من «حظها» المعروف، ويتحدث مطولاً عن سرعة نمو الصين، ونجاح هذا النموذج والقدرات التنافسية العالية التي يتمتع بها، والذي لا يمكن للولايات المتحدة التخلص منه بسهولة، بالإضافة إلى كون الصين استطاعت أن تتصدى لفيروس كورونا المستجد بفاعلية كبيرة مكنتها من حصر عدد ضحايا الوباء بـ 5 آلاف، بالوقت الذي خسرت فيه الولايات المتحدة أكثر من 300 ألف مواطن قضى بفعل الفيروس الفتاك. وقبل أن يذكر التغيير المناخي بوصفه رابع تلك الأسباب، يتحدث والت كأحد المصلحين الاجتماعيين عما سببه الأمريكيون لأنفسهم بسلوكهم السيء! وعن أولئك الذين لا يرتدون أقنعتهم الواقية في الأماكن العامة، ويذكر القليل وبشكلٍ مقتضب عن النظام الانتخابي السيء، والمال الذي أفسد السياسية وغيرها من العناوين العريضة التي تدل على سطحية معالجة الكارثة التي تعيشها البلاد. لكن وعلى الرغم من ذلك يدعو والت الأمريكان إلى الرضوخ والقبول بأنه لا يجب الافتراض بأن النجاح هو حقٌ موروث لهم لن ينازعهم عليه أحد، ويدفعهم إلى نسيان مقولة السياسي الألماني الشهير بيسمارك: «أن عناية إلهية خاصة ترعى المجانين والسكارى والولايات المتحدة الأمريكية».
كان الفيلسوف الأمريكي محقاً في الكثير مما جاء في مقاله، لكنه أغفل السبب الجوهري شأنه شأن الكثير من المحللين السياسيين؛ فالولايات المتحدة كانت تقترب من هذه النهاية منذ زمنٍ طويل، ولا مجال للحديث عن الحظ وغيره من الخرافات. الأزمة الرأسمالية التي كان يمكن توقعها منذ عقود، لن تستثني الدول المحظوظة! فرض الدولار بالقوة وأعمال البلطجة لا يمكن أن تستمر؛ فالدولة التي أنتجت بعد الحرب العالمية الثانية ما يصل إلى نصف إنتاج العالم الغربي، وثلث الإنتاج العالمي باتت جزءاً من الماضي... لم تعد موجودة ولا يمكن أن تستمر في قيادة المستقبل بإنجازات الماضي. لا شك أن الجميع سيدفع حصته من هذه الأزمة، لكن الولايات المتحدة ستتلقى الصدمة الكبرى... ولن يمنع تلك الصدمة لا الحظ الطيب ولا النوايا «الطيبة»، ولا بايدن وجماعته...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 998