عندما كانت اليونان وقبرص «براغيثَ» بنظر الغرب!
لا يبدو حتى اللحظة أن حلاً لأزمة شرق المتوسط يلوح في الأفق، فالوضع لا يزال متوتراً على الرغم من قيام تركيا بخطوات ملموسة كان أبرزها: سحب سفينة الأبحاث والتّنقيب والسفن العسكرية المرافقة لها، وإطلاق المباحثات التركية- اليونانية، هذا ما يطرح سؤالاً حول صدق نوايا «الذئب في رعاية القطيع»!
تورد عدة مصادر تاريخية منها كتاب «رهينة التاريخ: قبرص من العثمانيين إلى كيسنجر» للكاتب البريطاني كريستوفر هيتشنز عن مشادة كلامية جرت بين السفير اليوناني إلى الولايات المتحدة الكسندروس ماتساس والرئيس الأمريكي ليندون جونسون عام 1967، فبعد أن قام السفير اليوناني بتوجيه انتقادات للسياسة الخارجية الأمريكية وتدخلها في شؤون بلاده، كان رد الرئيس الأمريكي صادماً، فتورد السجلات عن جونسون قوله: «استمع إلي يا ساعدة السفير، تباً لبرلمانكم ولدستوركم، فالولايات المتحدة بمثابة فيل أما قبرص واليونان فهما أشبه بالبراغيث! وإذا قامت البراغيث الصغيرة بإزعاج هذا الفيل فلربما يقوم بسحقهم بخرطومه»، ويبدو أن التهديدات الأمريكية هذه لم تقف عند الكلام البذيء والمسيء، بل جرت ترجمتها على شكل أفعال، فقد أظهرت الولايات المتحدة موقفها من البرلمان والدستور اليوناني عندما وقفت وراء الانقلاب الذي قاده مجموعة من اليمينيين المتطرفين في العام ذاته، لتعيش اليونان تحت هذا الحكم المتطرف الذي عرف باسم «السنوات السبع»، وإن كان لا مجال لاستعراض تلك الأحداث التاريخية المهمة في حياة اليونان ودورها في صراع المحاور الدولية الأساسية، إلا أن هذه القصة البسيطة تظهر بوضوح كيف ينظر الغرب إلى اليونان وقبرص ولا يمكن القول: إن هذا الموقف تغيير بعد هذه السنوات، فالغرب يستخدم اليونان اليوم كأحد عناصر التفجير في شرق المتوسط، ولا يراعي أن هذه البلدان وإن كانت صغيرة في الحجم إلّا أن دفعها مع غيرها للأفعال المتهورة سينتج كارثة لا محالة.
من يتحمل المسؤولية؟
ليس من الصعب على أحد أن يدرك أن المسؤولية حول ما يجري يتقاسمها عددٌ من الدول بما فيهم تركيا واليونان، لكن الأحداث تبدو ملفتة، فدول شرق المتوسط قلقة من تصعيد أكبر ومع ذلك لا يستطيع أحدٌ إيقاف ما يجري، كما لو أن خيوط اللعبة في مكان آخر، وهذا هو الحال بالفعل!
فالمحادثات التي تجري بين اليونان وتركيا في مقر الناتو تشكّل تطوراً إيجابياً دون شك، لكن بعض رعاة هذه العملية لا يبدو أنهم يرغبون بتطويق النزاع حقاً. فالخطوات التصعيدية التي قامت بها تركيا سواء باتفاقية ترسيم الحدود مع «حكومة الوفاق» الليبية، أو عبر إرسال سفينة التنقيب مع حراستها، لم تقابل في الواقع بأية محاولات للتهدئة، فالاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة أعلنا دعمهما لليونان، ولم تقف الأمور عند الدعم الدبلوماسي والسياسي بل جرت خطوات عسكرية ملحوظة، مثل: الإعلان عن بيع فرنسا 18طائرة مقاتلة لليونان وأربع فرقاطات، بالإضافة إلى مروحيات بحرية وطوربيدات وغيرها من المعدات العسكرية وهذا ما أكده رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس. وبالإضافة إلى ذلك خرجت أصوات من مجلس الشيوخ الأمريكي تقول: إن الولايات المتحدة تدرس إمكانية نقل قاعدة أنجرليك من تركيا إلى جزر اليونان بما فيها من ترسانة نووية، أما وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو والذي «يصرّ» على ضرورة «الابتعاد عن التصعيد العسكري» أعلن قبل فترة قصيرة أن بلاده رفعت حظر توريد السلاح المفروض على قبرص منذ 1973. يضاف إلى هذا التصعيد العسكري تهديد مستمر وغير منقطع بفرض عقوبات على تركيا.
التمهيد للمفاوضات
بعض دروس التاريخ تؤكد أن ساعات المفاوضات تترافق بقصف عنيف لجبهات الخصم، ويمكن القول: إن الخطوات التصعيدية التي تجري إنما هي لتحسين موقع المتفاوضين على الطاولة لإحراز أفضل اتفاقٍ ممكن، لكن شكلاً آخر يجب اتباعه تحديداً في النزاعات ذات الحساسية المرتفعة ودرجات الخطورة المرتفعة، مثل ما يعرف بإجراءات الثقة، أي: قيام الأطراف المتنازعة باستبدال مبادرات حسن النوايا بلغة التهديد، فسحب السفن التركية في الأيام الماضية يجب أن يقابل بخطوات مشابهة، هذا إذا افترضنا أن رعاة هذا التوافق جادون بإيجاد مخرجٍ حقيقي لكن الأمور في الواقع أعقد من ذلك.
فهناك لا شك أطراف تركية ويونانية وأوروبية ترى إمكانية لإيجاد أرضية للاتفاق، بينما يتضح أن بعض الخطوات التصعيدية التي تجري تهدف للضغط على المفاوضات من الخارج لا نصرة لطرفٍ على حساب آخر بل أملاً بإفشالها.
على سبيل المثال لا الحصر
استضافت القاهرة يوم الثلاثاء 22 أيلول اجتماعاً ضم 6 دول في محاولة لإطلاق «منتدى غاز شرق المتوسط»، وجاء هذا امتداداً للقاءات قديمة عقدت تحت رعاية ومباركة أمريكية، يؤمن هذا «التحالف التجاري» مجموعة من الأهداف الأمريكية، فهو يضم مصر والأردن واليونان والكيان الصهيوني وقبرص وإيطاليا والسلطة الفلسطينية (التي تغيبت عن الاجتماع الأخير)، بصفتهم أعضاء مؤسسين، فإلى جانب الحلم الأمريكي بأن يؤمن هذا المشروع بديلاً عن الغاز الروسي في أوروبا، يطمح بشكل واضح إلى فرض عملية التطبيع مع الكيان الصهيوني على أرض الواقع، وعبر ربطه بمصالح اقتصادية للبلدان المحيطة، لكن ما يهمنا من هذا المشروع عند نقاش الأزمة التركية- اليونانية أنه يستثني تركيا وليبيا، وإذا أردنا استخدام لغة بسيطة سهلة الفهم يمكّننا القول: إن تحريك هذا المشروع مجدداً يعني رسالة أمريكية لتركيا، أنها لن تكون جزءاً من مشاريع غاز المتوسط، أي محاولة لإيهامها بأن لا حل يمكن أن يجري صياغته ضمن مفاوضات ما يعني العودة إلى التصعيد العسكري، أو أن تقدم تركيا تنازلات فيما يخص علاقتها مع روسيا تحديداً، ويضع هذا المشروع اليونان وقبرص كرأس حربة في مواجهة تركيا، وهو ما يمكن تشبيهه بطُعمٍ لاصطياد الفريسة عبر جرها لمزيد من التصعيد. عبر استغلال السلوك التركي الذي حاول فرض الأمر الواقع قبل الدخول في المفاوضات أو الوصول إلى اتفاقات نهائية.
تملك تركيا ساحلاً هو الأكبر على البحر المتوسط، ولهذا السبب تطالب بأن تحصل على حصة من ثروات هذا البحر، وتقول: إنها تريد أن تحصل على هذه الحصة عبر حوارٍ يشمل دول البحر المتوسط كلها، لكن هذا الطرح التركي ما زال مرفوضاً، ولا يمكننا تجاهل أن أحد أسباب هذا الرفض هو السلوك التركي الذي لم يعط التطمينات الكافية بعد، لكن السبب الرئيس هو الدعم الذي يقدمه الغرب لمن يعرقل هذه التفاهمات، وخصوصاً أنه لا يبدو أن دول البحر المتوسط شديدة الحساسية لتقاسم ثروات هذا البحر حتى مع أطرافٍ بعيدة! فالكيان الصهيوني يقترح ضم دولة الإمارات إلى منتدى الغاز هذا، وهي الدولة التي لا مبرر جغرافياً لوجودها ضمن هذا المنتدى، لكنها تقدم فروض الطاعة للكيان وللولايات المتحدة، وهذا يكفي لأن تكون شريكاً في الغاز! إذ كانت دول شرق المتوسط جادة في إيجاد توافقات فيما بينها فالطريق المضمونة لذلك تمر عبر احترام ثروات هذه البلدان من قبرص– أصغرها إلى تركيا وإيطاليا، ولن يكون من الممكن التوصل لهذا النوع من التوافقات إذا تركت الأمور للكيان الصهيوني والولايات المتحدة لإدارة هذا الملف
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 985