الولايات المتحدة: تناقضات عدة تشترك في منبعها

الولايات المتحدة: تناقضات عدة تشترك في منبعها

ظهر خلال الفترة القريبة السابقة موقفان من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، أنتجا جدلاً سياسياً وإعلامياً كبيراً في الأوساط الأمريكية، الأول: تصريحه حول المجمع الصناعي العسكري الأمريكي، والثاني: رفضه التعهد بالنقل السلمي للسلطة في حال خسارته بالانتخابات المقبلة.

قال ترامب قبل أسبوعين، بأن القادة في البنتاغون «لا يريدون فعل شيء سوى شنّ الحروب كي تبقى جميع الشركات الجميلة- المصنّعة للقنابل والطائرات وكل شيء آخر- سعيدة»، بانتقادٍ منه للتعاون بين وزارة الدفاع والشركات الصناعية العسكرية الأمريكية، حيث تعمل الواحدة منها لصالح الأخرى تحقيقاً للأرباح في القطاع العسكري، عبر شنّ الحروب في الخارج، وتصدير وبيع الأسلحة في مناطق التوتر.

وقد أدى هذا التصريح لترامب بالتذكير بقولٍ مشابهٍ من الرئيس السابق دوايت آيزنهاور في خطابه الوداعي عام 1961: «يتوجب علينا الاحتراس من النفوذ المتنامي للمجمع الصناعي العسكري والتأثير على القرار السياسي الأمريكي، وهو تدخل لا مبرر له، سواءٌ كان بطلب أو بغير طلب... من هنا فإن الاحتمال موجود للصعود الكارثي للسلطة في غير مكانها، وسيظل موجوداً، لذا، يجب علينا ألّا نترك أثر هذا المجمع ليعرّض حرياتنا وعملياتنا الديمقراطية للخطر...»

التصريح بالإعلام الأمريكي

حاول الإعلام الأمريكي نقاش وتسويق تصريح ترامب من الزاوية «الربحية» للمسألة، لتخلص الغالبية من المقالات والنقاشات التي نُشرت وعُرضت بنتيجة واحدة مفادها: أن ترامب يناقض نفسه بهذا التصريح، حيث إن إدارته قد دعمت هذا المجمّع بتمويله وإنتاجه وحروبه وتجارة سلاحه في الخارج، أكثر من جميع الإدارات السابقة له، واتخذوا من ذلك أمثلةً عدةً سواء بعدد الصواريخ التي جرى إطلاقها أو الطلعات الجوية في عددٍ من الدول، منها: أفغانستان وسورية والسودان، أو صفقات السلاح الكبيرة، ومنها: مع السعودية التي جرت في بدايات فترة ترامب الرئاسية، أو بالميزانية الكبيرة جداً والمخصصة للدفاع من هذا العام بالمقارنة مع ما سبقها.

تُحاول هذه التأويلات لتصريح ترامب إفراغ مضمونه الأساس، السياسي، والتشويش على التناقض الجاري داخل الولايات المتحدة بين نهجي الإنكفاء والتوسع، مع ما يتبع كلاً منهما من سياسات داخلية وخارجية مختلفة، أو بالمختصر على الانقسام الأمريكي نفسه.

ولتغطي على حقيقة واحدة أيضاً، أنه ورغم كل التمويل الجاري لهذا القطاع، إلا أنه كان ولا يزال يمضي بمعدل وسطي عام نحو الهبوط والانخفاض من حصته من الناتج الوطني الإجمالي وفقاً لمعطيات البنك الدولي.

985-1-5

هل يناقض نفسه؟

في الحقيقة، ترامب كممثلٍ عن محصلة ميزان مصالح النخبة الأمريكية بانقسامها، لا يناقض سلوكه بهذا التصريح، على العكس، يأتي متراكباً مع كل نشاطه السابق والتطورات والضغوط الجارية اليوم قُبيل الانتخابات الأمريكية، فرفع ميزانية الدفاع لهذا العام إنما كانت نتيجة «سباق التسلح» التي دفعت أمريكا بنفسها إليه، لتكون الأولوية هنا مسألة عسكرية ودفاعية، ويليها الجانب الربحي بالنسبة للمجمّع لا العكس، ومن هنا أساساً، يقع أحد جوانب التناقض بين مصالح الشركات الصناعية العسكرية التي تعمل وتدفع باتجاه الربح، وبين التطور السياسي للولايات المتحدة الأمريكية بموقعها من موازين القوى الدولية اليوم، حيث تضطر وتحاول- بصرف النظر عن القدرة الموضوعية- على مناقضة بنيتها بوضع المسائل السياسية القومية قبل الربح، وهو ما يحاول ترامب فعله بشعار «أمريكا أولاً»، وأما صفقات السلاح مع السعودية فقد علّق عليها ترامب وضوحاً بأنها مسألة تنافسٍ مع الدول الأخرى بغاية سياسية، حينما قال عام 2016: «إن لم نبعهم نحن كانوا سيشترون من روسيا أو الصين»، وهو ما يُعمم على كل صفقات السلاح الأمريكية التي تجري في عهد ترامب، والتي تتعلق أيضاً لا بالضرورة الربحية أولاً بقدر ما هي مسألة استمرار نفوذهم الخارجي حمايةً للدولار، وإبطاءً لتراجع وزنهم قدر الإمكان، فضلاً عن موضوعة الانسحابات العسكرية الدولية التي تقودها الآن إدارة ترامب.

لكن على أيّة حال، ولتوضيح حالة التناقض أكثر، فإن محاولة تكسير رتبة الربح كأولوية في سياسة ترامب العسكرية، لا تعني سوى إعادة توزيع هذه الثروة والربح بين هذه القطاعات لصالح الصناعة والزراعة والتكنولوجيا داخلياً، بسياسة الانكفاء وعودة الرساميل والمستثمرين من الخارج الأمريكي نحو الداخل، استعداداً للأزمة المقبلة بانفجار فقاعة الدولار وما تحمله من خسائر.

وعليه، فإن هذا الموقف من ترامب، لا يعني فتحه جبهة مع هذا المجمع بمصالحه وطموحاته فقط، وليس الآن، إنما يعكس جزءاً أساساً من حالة الانقسام الأمريكي المزمن نفسه بين قوى الحرب والمال، التي تسعى إلى تصدير أزمة الولايات المتحدة نحو الخارج كما جرت العادة، وقوى الانكفاء التي تسعى إلى تقوية الإنتاجات الحقيقية الداخلية لاستقبال الأزمة بأقل الخسائر، وإمكانية مواجهة أعلى، ولتكون محصلة تطور الظروف الموضوعية تسير بالتوافق مع تيار الانكفاء، حيث الأزمة الجارية منذ ما قبل 2008 أضعفت وتُضعف الإمبراطورية الأمريكية المعهودة خارجياً.

ترامب وآيزنهاور والحرب الباردة

«التاريخ يعيد نفسه مرتين، في المرة الأولى: كمأساة وفي الثانية: كمهزلة».

من اللافت بين تصريحي آيزنهاور وترامب أن كليهما صدرا في فترة مشابهة من نهاية حربٍ عالمية وبدايات الحرب الباردة على المستوى الدولي، وهذه ليست مصادفةً.
بينما يتفق الجميع على تسمية الحرب الباردة بالفترة التي تلت العالمية الثانية، يختلف الكثير حول تسمية ما يجري اليوم بهذا العنوان، إلّا أن كلاً من الخارجيتين الروسية والصينية قد صرحتا مراراً منتقدتين، بأن سلوك واشنطن اليوم يشبه جداً سلوكها بفترة الحرب الباردة، ويقول عديد من المحللين: إن حروب الوكالة التي فُتحت خلال العقدين الماضيين في العديد من النقاط والمناطق في الكوكب إنما هي معادلٌ لحربٍ عالمية ثالثة.
لكن رغم اختلاف الظروف الداخلية لأمريكا بين القرن الماضي بصعودها الدولي، واليوم بهبوطها، إلا أن صيغة الحرب الباردة مرتبطة مباشرة بالردع النووي الدولي المتبادل القديم الجديد نفسه، وتناقض هذا الردع مع قدرة المجمع الصناعي العسكري على شن الحروب التدميرية واسعة النطاق التي كان آخرها عملياً نوويتي اليابان، أما كل ما تبعها فلم يحقق طموحات هذا المجمع الحقيقية، ومن هنا، كان تصريح آيزنهاور السابق بخطر المجمع على الولايات المتحدة داخلياً.

المهزلة اليوم بالنسبة لواشنطن، أن هذا التاريخ الشبيه المكرر شكلاً، يختلف بمضمونه تماماً، فإذا ما كانت نتيجة الحرب الباردة السابقة انهيار الاتحاد السوفييتي الذي كان يمر أساساً بفترة تراجع وهبوط، فإن هاتين الصفتين الأخيرتين تنطبقان اليوم على الولايات المتحدة نفسها، فهل ستكون نهايتها انهيار الولايات المتحدة؟ بكل تأكيد، بصرف النظر عن كيفية وشكل هذا الانهيار أكان تفككاً أم تغييراً ونفياً للمنظومة الأمريكية نحو منظومة أخرى.

الانتقال السلمي من عدمه 

من هذه الحال الأمريكية الداخلية والخارجية كلها، وبتطورها، تتزايد حدة التناقضات بين طرفي الانقسام، ولعل هذه الفترة التي تسبق الانتخابات من أكثر الفترات التي تُطفو فيها هذه الخلافات على السطح والإعلام... ليجري في يوم الأربعاء سؤال ترامب خلال مؤتمر صحفي له حول ما إذا كان يتعهد بالنقل السلمي للسلطة في حال هزيمته، ليرفض بدوره القيام بهذا التعهد أو تأكيده، وتقوم موجة مجادلات إعلامية وتحريضية حول الأمر.
في الحقيقة، يمثل هذا الموقف من ترامب تهديداً جدّياً على سير العملية الانتخابية في شهر تشرين الثاني، خاصةً وإن تبعه موقفان آخران ومثيران للجدل هما محاولته الإيحاء بإمكانية تأجيل الانتخابات، والثانية: تشكيكه المُسبق بنتائجها بسبب عملية الاقتراع البريدية التي طُرحت مؤخراً بسبب الجائحة الفيروسية وإمكانية التلاعب بها.

فضلاً عن حالة التوتر التي تعيشها الولايات المتحدة اليوم بعد مظاهرات جورج فلويد قبل عدة أشهر، وصولاً إلى حالات القتل شبه اليومي في الشوارع الأمريكية سواء بين المحتجين أنفسهم من ثنائيات المحافظين والليبرالين أو البيض والسود، أو فيما بين المحتجين والشرطة، وتشكّل ميليشيات مسلحة منظّمة مؤخراً من هذه الثنائيات نفسها لتطوف شوارع البلاد، وصولاً إلى قيام الإعلام الأمريكي، بأسلوب تحريضي وموجّه، على قيام مقارنات بين درجة تسليح البيض أو اليمينيين/ المحافظين بدرجة كبيرة، بالمقارنة مع السود أو «اليساريين»/ الليبراليين بدرجة تسليح هزيلة، وكأنّ الدعوة تكمن بدفع الطرف الأخير إلى تسلحٍ أعلى!؟
وفي هذا السياق أشار أحد الباحثين السياسيين الأمريكيين، ستيفن إيبرت، في مقابلة له إلى احتمالية «إراقة الدماء» في الشوارع بعد الانتخابات، نظراً لهذه التوترات مجتمعة بتصاعدها.

لا يمكن الجزم اليوم إلى أية درجة يمكن أن تصل الأمور، المؤكد أن حالة الانقسام لا ترتبط بترامب أو ببايدين حتى وإن تمظهرت اليوم في شكل صراعهما الانتخابي، بل المشكلة أكبر من ذلك بكثير، فحالة الصعود الذي شهدته الولايات المتحدة، والتي مكنتها إلى جانب دورها الدولي من بناء جبهة داخلية متماسكة، لكن حالة التراجع التي تعيشها تهدد- إلى جانب دورها الدولي- نظامها السياسي وما حققته على صعيد توحيد الولايات، فهذه ليست الانتخابات الرئاسية الأولى التي تشهد صراعاً حاداً بين المتنافسين، فهذا تكرر في عدد من المرات سابقاًـ ولا يمكن بشكلٍ من الأشكال القول بأن المظاهرات التي خرجت في وجه عنصرية رجال الشرطة هي الأولى في تاريخ الولايات المتحدة، بل هي أشبه بحالة دورية كما لو أنها فصل من فصول السياسة الأمريكية، إلا أن ما تغيير اليوم هو حالة التراجع العامة، التي باتت تولّد المشاكل والأزمات، وغير قادرة على حلها، أو التعامل مع المشاكل الدورية التي واجهت هذه الدولة منذ نشأتها.

معلومات إضافية

العدد رقم:
985
آخر تعديل على الإثنين, 28 أيلول/سبتمبر 2020 13:52