عن خلافات أعضاء «الناتو» وتطورها
يزن بوظو يزن بوظو

عن خلافات أعضاء «الناتو» وتطورها

الولايات المتحدة الأمريكية تبتز ألمانيا عسكرياً لعدم دفعها المال، وفرنسا تتهم تركيا باستغلال وجودها في الناتو لتحقيق مصالحها الفردية، بينما تتهم تركيا الناتو بأن الحلف لا ينظر إلى مصالح أعضائه، بينما يُنغّم الفرنسيون والألمانيون على لحن إنشاء منظومة دفاع بديلة عن الناتو... ما مشكلة حلف شمال الأطلسي، وما مستقبله؟

انطلق حلف الشمال الأطلسي «الناتو» إلى الوجود بعد الحرب العالمية الثانية في فترة الحرب الباردة بمواجهة الاتحاد السوفييتي تحت هدف: حماية الأمن الجماعي لأعضائه، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وتزعّمها عالمياً، لتكون هيكلية الحلف السياسية والعسكرية بأهدافه التكتيكية والإستراتيجية قائمة أولاً على هذا الأساس الدولي.

المصلحة الأمريكية

مع انهيار الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة، لم تتغيّر وظيفة الناتو الرسمية ولا أساسها، إلا أنها بدأت تهتزّ عملياً منذ لحظة التراجع الأمريكي عن الساحة الدولية واتخاذ واشنطن نهج الانكفاء و«أمريكا أولاً» عبر السياسات أحادية الجانب، لمصالحها وحدها، ليتحول الناتو من ضامن لحماية الأمن الجماعي لأعضائه إلى وسيلة جباية أمريكية وابتزاز عسكري لمكاسب سياسية لحظية هدفها بشكل أساس: إعاقة العلاقات الاقتصادية والسياسية والعسكرية بين روسيا ودول الاتحاد، وشيطنة روسيا على الدوام.
لكن هذا السلوك المُعطل، بالتوازي مع استمرار التراجع، وتصاعد الأزمات العالمية وتعمّق الأزمة الرأسمالية نفسها، كل هذا صنع ردود فعلٍ لدى الدول الأعضاء في الناتو نفسه اتجاه واشنطن، لتناقض المصالح، ومن تراجع الأخيرة أتيح لكل عضوٍ منها التفرّد بمساحة تخصه ونشاطه وفقاً لمصالحه الخاصة أيضاً، مستخدماً بذلك عضوية الناتو ورقةً بيده، ليظهر تناقض في المصالح بين الدول الأوروبية نفسها داخل الحلف، ما لبث أن طفا على السطح ولتتصاعد الأسئلة حول إمكانية استمرار الناتو بهذا الشكل أو تغييره، أو ربما دفنه.

اختلاف المصالح أوروبياً

بالنسبة لألمانيا، صاحبة الاقتصاد الأقوى أوروبياً، تتلخص مصلحتها أولاً بالبحث عن الاستقرار الأمني والعسكري لمزاولة نشاطها بأفضل الظروف وبمعزلٍ عن الهيمنة والابتزاز الأمريكي، إلا أنها وفي الوقت نفسه، بسبب الصراع التاريخي والمستمر بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، لا يمكنها القفز عن اعتبارها جزءاً من هذا الصراع، حيث كل تصعيد عسكري بين واشنطن وموسكو، يرفع حدة الخطر على أمن ألمانيا، والتناقض في المصلحة يكمن بين الاقتصادي الذي يميل نحو سياسة «التكافؤ» الشرقية مما يؤمن نمواً أفضل، والعسكري الذي لا يزال خاضعاً للعلاقات الغربية- الأمريكية،. وعليه كان ترامب يندد بأن ألمانيا لا تدفع مستحقاتها المالية للناتو وللحماية الأمريكية، بينما تقيم علاقات اقتصادية وتجارية مع روسيا، تحديداً منها: «السيل الشمالي-2»، وليخلص إلى قرار تخفيض تعداد قواته العسكرية بمقدار 9500 جندي في ألمانيا، وتردّ ميركل على ذلك بأن الوجود الأمريكي قائمُ لحماية المصالح الأمريكية نفسها أولاً.
أما تركيا، صاحبة الوزن العسكري الأكبر أوروبياً، فتسعى عبر ملء الفراغات التي يخلّفها الأمريكي وراءه- بمختلف الملفات- على تحقيق مصالحها السياسية والتجارية، وليبيا هنا مثال عبر اتفاقية ترسيم الحدود البحرية والشراكة مع حكومة الوفاق الوطني، والدفع بهذا الطرف سياسياً لضمانة استمرار وتنفيذ اتفاقاتها السياسية مع ليبيا.
بينما فرنسا، بالمثل من أمريكا وألمانيا وتركيا، تسعى إلى إيجاد خرقٍ تنفذ منه لـ«فرض» مصالحها، في حين أن المنافسة الاقتصادية والعسكرية غير متكافئة، فمجمل سلوكها السياسي يبدو «مناورةً» بين جميع الأطراف، وعلى رأسها واشنطن وموسكو، أو كما يُقال «اللعب على الحبلين» ريثما تميل الكفّة وضوحاً لصالح أحدهما، وصولاً إلى الصدام مع تركيا في الملف الليبي، وما يحيطه، لما له من تأثيرٍ مباشر على مصالحها، لكن ولانعدام التكافؤ نفسه، خسرت باريس المعركة سياسياً، بشكلٍ مؤقت.

الخلاف الفرنسي- التركي

برز الخلاف بشكل جليّ في اصطفاف كلا البلدين في طرفين متعاكسين ضمن الملف الليبي، ويدور الأمر حول الاتفاقيات التركية مع حكومة الوفاق الوطنية التي تناقض المصالح الفرنسية، وسعي فرنسا إلى فرط عقد هذه الاتفاقيات، لتجري معركة بالوكالة بينهما على الساحة السياسية، وتطفو إلى جدالٍ واتهامات متبادلة بينهم في الناتو نفسه، ليصرّح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأن أنقرة تستغل وجودها في الناتو لفرض مصالحها الأحادية، ويردّ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بأن فرنسا تخالف الناتو بتحيّزها الواضح داخل الأزمة الليبية، وصولاً إلى ذروة المعركة، حيث حاولت سفينة فرنسية اعتراض فرقاطة بحرية تركية لتفتيشها تطبيقاً لقرار منع توريد السلاح إلى ليبيا، لتُجري الفرقاطة مناورةً خطرة مهددةً بسلامة السفينة الفرنسية وطاقمها.
إثر ذلك صعّدت باريس في خطابها بوجه أنقرة مطالبةً الناتو بإجراء تحقيقٍ ومحاسبة تركيا على هذا السلوك، ليخلص التحقيق إلى عدم تبنّي الادعاءات الفرنسية لصالح تركيا، ويعود هذا الأمر بمجمله لا إلى «التحقيق» بعينه، وإنما إلى محصلة موازين القوى بين أنقرة وباريس ضمن الناتو نفسه، لتعلّق فرنسا مشاركتها في مهام حلف الناتو للمراقبة البحرية في الأبيض المتوسط احتجاجاً على هذا الأمر، وهدد أمريك شوبارد، النائب البرلماني الأوروبي السابق عن فرنسا بأنه «حان الوقت للانسحاب من الناتو»، ويصرّح الرئيس الفرنسي بأن الحادث العسكري بين فرنسا وتركيا «يثبت الموت السريري» لحلف الشمال الأطلسي.

شيطنة روسيا لزيادة الابتزاز

تؤكد موسكو طوال الوقت بأنها لا تنوي قتال أي طرف، وأنها مجبرة فقط على تعزيز دفاعها رداً على تزايد قوات الناتو والقوات الأمريكية على الحدود الروسية.
إن الأمر هنا يتعلق بقلب علاقة النتيجة بالسبب، لتروّج واشنطن بأن روسيا «بعبعٌ» عسكريّ خطير على الأمن الأوروبي بعد كل إجراء دفاعي تقوم فيه نتيجةً للاستفزاز الأمريكي ولاستفزاز الناتو نفسه، ليتبعه تصعيدٌ سياسي من الدول الأوروبية الشرقية مؤخراً، مثل: بولندا ورومانيا، حيث أقرّت الأخيرة عبر مشروع إستراتيجية الدفاع الوطني الجديدة للفترة بين 2020 و 2024 اعتبار روسيا الاتحادية بلداً معادياً، ولتفتح بولندا أبوابها واسعة أمام دخول القوات الأمريكية إلى بلادها وتعزيزها، بذريعة الحماية من التهديد الروسي، لتكون نتيجته أن يعلن المتحدث باسم الرئاسة الروسية ديمتري بيسكوف بأن «بولندا بحد ذاتها بالكاد تشكل تهديداً لروسيا، لكن كونها دولة مستعدة لتوفير الأراضي للبنية التحتية العسكرية لدول ثالثة... يشكل هذا تهديداً لنا» لتسمح بولندا نفسها بذلك بأن تكون مطية أمريكية واضعةً أمنها وسلامة أراضيها رهن التجاذبات العسكرية.

مستقبل الحلف؟

وصل الأمر بواشنطن بأن تهدد بانسحابها من الناتو، حيث قال ترامب في مقابلة صحفية يوم السبت بأنه لا يريد أن تغادر الولايات المتحدة حلف الشمال الأطلسي، لكن على الحلفاء أن يدفعوا المستحقات: «سألوني سؤالا مهماً: هل ستغادر إذا لم ندفع... وأجبت: نعم، سأغادر».
ربما لن يجري تغيير حقيقي في هيكلية الناتو، أو دفنه إن اقتضت الضرورة، إلا بخروج واشنطن نفسها منه، لكن هذا لا يخفي حقيقة أن محصلة ما يجري على الأرض عسكرياً وسياسياً من تناقضات وخلافات يدفع باتجاه هذا التغيير، وباتجاه الإسراع بطرد واشنطن بغير رغبتها، لتبحث الأخيرة عن صيغٍ أكثر ابتزازاُ لاستمرار وتبرير تواجدها العسكري في أوروبا.

معلومات إضافية

العدد رقم:
974
آخر تعديل على الإثنين, 13 تموز/يوليو 2020 15:00