العالم 2018: احتجاجات شعبية- حلول سلمية- تعددية قطبية

العالم 2018: احتجاجات شعبية- حلول سلمية- تعددية قطبية

يوشك عام 2018 على الانتهاء، عامٌ حمل في مجرياته الكثير من التغيرات في الأحداث الدولية والعربية، كنتيجةٍ وتأكيدٍ لما وصفناه مراراً بالتغير في ميزان القوى الدولي والعلاقات الدولية، حيث تراجعت قوى وصعدت أخرى، لأسباب اقتصادية وعسكرية وسياسية، حاملة معها تغيراً في خارطة التحالفات الدولية، وانفراجاً لأزمات وتعقّد أُخرى، وفي ظل ذلك كله، يمكن اعتبار السمة الأساسية لعام 2018 هي صعود الحراك الشعبي في نقاط عدة حول العالم، وهو الأمر الذي يدعو بشكل أساس للتفاؤل في العام القادم... تقدم قاسيون فيما يلي استعراضاً لأبرز العناوين العربية والدولية في عام 2018.

صعود الحراك الشعبي
كان ملفتاً في هذا العام اتساع رقعة الاحتجاجات الشعبية عالمياً، وارتفاع درجة نضوج وعمق مطالبها أيضاً، باقترابها أكثر من القضايا الجوهرية التي تمس نظام النهب واللامساواة في توزيع الثروة والحقوق.
وكما بدأ العام باحتجاجات الخبز، التي اندلعت في السودان وتونس منددة بارتفاع أسعار مواد أساسية، انتهى بها أيضاً، لتشهد السودان موجة ثانية من الاحتجاجات بمطالب سياسية أعلى، ولتعمّ تونس إضرابات عمالية ومظاهرات شعبية تندد بمستوى المعيشة.
وفي هذا العام استطاع الشعب الأردني إسقاط الحكومة التي حاولت تمرير قانون يرضخ لمطالب صندوق النقد الدولي، ويستهدف جيوب غالبية الشعب، ورغم محاولة التفاف الحكومة الجديدة لتمرير القانون، إلّا أنّ الجماهير انتفضت مجدداً حاملة معها مطالب أعلى بتغيير جذري للنهج السياسي والاقتصادي في البلاد.
حمل هذا العام أيضاً حدثاً بارزاً، وهو: صعود حركة السترات الصفراء في فرنسا، وامتدادها إلى دول أخرى شملت حتى الآن بلجيكا وهولندا وألمانيا وفنلندا، مما يفتح الاحتمالات أمام تمدد هذه الحركة في أوروبا خلال العام القادم نتيجة للقواسم المشتركة في المشكلات بين هذه الدول.
ففي فرنسا تستمر السترات الصفراء بالاحتجاج، إذ بدأت احتجاجاً على رفع أسعار الوقود وتوسعت إلى المطالبة بإقالة ماكرون وسياساته، وهي احتجاجات بدأت عملياً منذ تصدر ماكرون للسلطة، لما يحتويه برنامجه من ضرب لحقوق العمال، ومصالح سائر الشعب الفرنسي ليتراكم الاحتقان تدريجياً لدى الجميع. حيث تؤكد هذه الاحتجاجات على فكرة أن الجماهير ستعود إلى الشارع، وأنّ هذا الأمر لن يقتصر على بلدٍ بعينه أو منطقة بعينها، بل سيكون ظاهرة عالمية عامة، مشتقة من الأزمة الرأسمالية العميقة والشاملة.
في لبنان والعراق وتركيا، أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية، خرجت الجماهير إلى الشوارع... وكان القاسم المشترك فيما بينها جميعاً، هو: الاحتجاج على الأوضاع المعيشية والمطالبة بالتغيير الجذري.
أزمات مستعصية...حُلت سلمياً
بدأ عام 20118 بانفراج واحدة من أكثر الأزمات استعصاءً، وهي الأزمة في شبه الجزيرة الكورية الشمالية، في العلاقة بين الجارتين الشمالية والجنوبية، وفي العلاقة بين كوريا الديمقراطية والولايات المتحدة الأمريكية. إذ شهدت شبه الجزيرة الكورية سلسلة من الأحداث المتعاقبة والسريعة، تخللها اجتماع قمّة تاريخي لرئيسيها، بعد انقطاعٍ وحروبٍ وتناحرات دامت عشرات السنين، صدر عنها بيان سلام مشترك يوضح وقف الحرب وبدء مرحلة جديدة تماماً في العلاقات الشمالية- الجنوبية، ليتضمّن الاتفاق أيضاً آليةً حول نزع الأسلحة النووية في شبه الجزيرة كلها تدريجياً، حيث أكدت بيونغ يانغ أنه لا حاجة للإبقاء على برنامجها النوي طالما أنها لا تتعرض لتهديدٍ عسكري. واشنطن التي حاولت مراراً تصعيد الأزمة من خلال التهديدات والمناورات العسكرية في المنطقة، انصاعت للأمر الواقع المتجه نحو الحل والسلم، من خلال قمة جمعت رئيسها دونالد ترامب بالزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون، بتاريخ 12 حزيران، تعهدت فيها بيونغ يانغ بنزع سلاحها النووي مقابل ضمانات أمنية من واشنطن.
الأزمة الأخرى التي استعصت سنوات وانعطفت باتجاه الحل في 2018 هي الأزمة اليمنية، حيث اختتم العام بإعلان أمريكي سعودي وقف الحرب على اليمن، وبمفاوضات يمنية- يمنية، نتج عنها اتفاق تضمن وقف إطلاق النار وتفاهمات حول موانئ ومدينة الحديدة. مما شكل إعلاناً واضحاً عن فشل واشنطن والسعودية في تحقيق نصر عسكري في اليمن، حيث أصبحت تكاليف هذه الحرب ونتائجها أعلى من عوائدها، مما عكس في العمق فشل منطق الحلول العسكرية عموماً، وأكد على تغير موازين القوى الدولية والإقليمية.
كذلك الأمر بالنسبة للأزمة الليبية التي شهدت هذا العام دفعاً باتجاه الحل السياسي، من خلال مؤتمرين اثنين، واحد في باريس والثاني في باليرمو الإيطالية، حيث عكست هذه المؤتمرات بنتائجها توافق فرقاء الأزمة على الحل السياسي. يضاف إلى ذلك حلحلة الخلاف التاريخي بين أريتيريا وإثيوبيا، ودفع لحل المعضلة في أفغانستان عبر رعاية روسية ومبادرة عُرفت بـ «صيغة موسكو».
العسكرة... وتغير الموازين
ازدادت ملامح العسكرة هذا العام، وتغيرت التوازنات العسكرية، كانعكاس لاشتداد الأزمة الرأسمالية وتغير الموازين الاقتصادية، حيث يمكن إيجاز أبرز الأحداث على هذا الصعيد بما يلي:
- استكمال عملية ضرب التفوق العسكري الأمريكي، مع الإعلان عن أنواع جديدة من الأسلحة تمتلكها روسيا، ليس لها مثيل، ولا تستطيع المضادات الأمريكية التصدي لها.
- مناورات الشرق 2018 العسكرية، كأكبر مناورات في تاريخ روسيا الحديث، أجرتها مع الصين ومنغوليا، التي عكست بضخامتها نوعاً وكماً من حيث عدد الأفراد والآليات، وبالشراكة الروسية الصينية تحديداً، قوة عسكرية مشرقية كبرى.
- التهديد الأمريكي بالانسحاب من اتفاقية الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى، التي شكلت أحد مفاصل الأمن الدولي ووضعت في أثناء الحرب الباردة في عام 1987 للحد من «سباق التسلح» الذي كان يجري آنذاك و«انتشار السلاح النووي».
ومع كل هذه التوترات تتبادر للأذهان نُذُر قرب حرب عالمية جديدة، نووية، بين «قطبين» كما اعتاد العالم أن يُخيل له بعد الحرب العالمية الثانية، لكن الوقائع تقول: أنه لم يعد هنالك قطبان ولا قطبُ واحد أصلاً يتمثل بأمريكا، بل تعددية قطبية، حيث لم يعد لواشنطن، مع اقتراب انهيار دولارها يوماً بعد يوم، أيّ حاملٍ اقتصادي لتحركاتها وعملياتها العسكرية، وهو ما يدفعها إلى سحب قواتها من مختلف المناطق حول العالم مؤخراً، كما حدث في الإستراتيجية الأمريكية الجديدة في إفريقيا التي تهدف من خلالها إلى تخفيض قواتها العسكرية المتواجدة في القارة، والتركيز على ما اعتبرته الإستراتيجية الدفاعية الأمريكية الجديدة أولوية، بمواجهة منافسيها الصين وروسيا.
التعددية القطبية
في هذا العام تعمّقت ملامح نشوء عالم متعدد الأقطاب، مع ارتفاع مستوى التعاون الدولي سياسياً واقتصادياً، وتراجع قبضة القطب الواحد والمتمثل بالولايات المتحدة الأمريكية، وأصبحت العزلة الأمريكية وانقساماتها الداخلية أكثر وضوحاً.
إذ ازدادت عمليات التخلي عن الدولار كعملة عالمية، وأصبحت العقوبات الاقتصادية الأمريكية ذات مفعول عكسي، وفي هذه الأثناء ازداد حلفاء أمريكا التقليديون تخلياً عنها، وكان هذا جليّاّ في العلاقة الأمريكية مع كل من الاتحاد الأوروبي، تركيا، والسعودية.
وشكلت قمة هلسنكي التي جمعت بين الرئيسين الأمريكي والروسي، إعلاناً بهذا الشكل أو ذاك عن انتهاء حقبة «القطب الواحد» رسمياً، وعن أنَّ خارطة القوى العالمية قد تغيّرت ويواصل تغيرها.
تعمّقت الخلافات الأوروبية الأمريكية في هذا العام، وكانت أبرز مواضيع الخلاف، هي: العلاقات الأوروبية مع كلٍّ من روسيا وإيران. إذ ازدادت الضغوط الأمريكية على أوروبا لشراء الغاز الأمريكي، وتضييقها على الدول والشركات المشاركة في مشروع خط «السيل الشمالي» لنقل الغاز الروسي إلى أوروبا، ورغم ذلك فإن إعمال إنجاز هذا الخط جارية بغضِّ النظر عن الرضا الأمريكي. كما أن القرار الأمريكي بالانسحاب من «الاتفاق النووي الإيراني» وفرض عقوبات على شركات تتاجر في النفط الإيراني دفع الاتحاد الأوروبي إلى تبني خطة جديدة معلناً من خلالها بأنه سيواصل العمل على إنشاء آلية مالية خاصة لتنفيذ المعاملات مع الجانب الإيراني على الرغم من العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة، مما مثّل تحدياً واضحاً للإرادة الأمريكية، ودفعاً جديداً باتجاه إنهاء هيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي. يضاف إلى ذلك الخلافات داخل «الناتو» مع استمرار واشنطن بمطالبة الدول الأعضاء رفع مساهماتها المالية، مما نتج عنه دعوة أوروبية لإنشاء جيش موحد بما بدا بأن أوروبا تسعى إلى الخلاص من عبء الناتو.
ازداد في العام التعاون الصيني مع إفريقيا، حيث عُقدت في الثالث والرابع من شهر أيلول سلسلة من المؤتمرات في إطار قمة بكين 2018 لمنتدى التعاون الصيني الإفريقي، تعّهدت الصين فيه بتقديم قروض دون فوائد تصل لـ 15 مليار دولار، ورصد حوالي 60 مليار دولار لتمويل مشاريع تنموية في الأعوام الثلاثة المقبلة. كذلك الأمر زادت الصين من علاقاتها مع دول أمريكا الوسطى مما يفتج المجال لهذه الدول للتحرر من قبضة واشنطن. كما مضت قدماً مبادرة «الحزام والطريق» الصينية، حيث بلغ في عام 2017 إجمالي حجم التجارة بين الصين والدول ذات الصلة بحوالي 1,1 تريليون دولار أمريكي.
وفي نهاية هذا العام، اعترفت الدول المشاركة في قمة «العشرين» التي عُقدت في العاصمة الأرجنتينية، بفشل منظمة التجارة الدولية، وتم الاتفاق على إصلاحها وعلى العمل بنظام تجارة تعددي. هذا النظام الذي تتبلور ملامحه يوماً بعد آخر على أصعدة عدة.
وكما برزت إلى العلن الانقسامات الداخلية الأمريكية، من خلال السياسيات والتصريحات الأمريكية المتضاربة، بالإضافة إلى استقالات عدة طالت الإدارة الأمريكية، ونتائج الانتخابات النصفية للكونغرس التي استحوذ بموجبها الديمقراطيون على مجلس النواب، فإن الانقسامات الأوروبية توضحت أيضاً مع استعصاء «بريكست» وتصاعد الدعوات الانفصالية. بما يعكس بمجمله انقسامات وتراجعاً ضمن المركز الرأسمالي برمته.
فلسطين
بدأت وتصاعدت مسيرات العودة الكبرى وفك الحصار في غزة هذا العام، وشهدنا أعمالاً بطولية للمقاومة، سواء على الصعيد الشعبي من خلال إبداع أساليب جديدة تمثلت في استعمال الطائرات الورقية والكوشوك، أو على صعيد الفصائل العسكرية التي استطاعت بصواريخها ردع العدو، وإحداث شرخ في حكومة الاحتلال أدت إلى استقالة وزير دفاعها أفيغدور ليبرمان، وبالنتيجة إعلان حل الكنيست والذهاب إلى انتخابات مبكرة.
كما أدت السياسات الأمريكية من خلال إعلانها القدس عاصمة للكيان الصهيوني، ووقف تمويل الأونروا وغيرها، إلى عزل واشنطن عن كونها وسيطاً في تسوية القضية الفلسطينية، وتوضح في هذا العام تراجع دور واشنطن في المؤسسات الدولية، من خلال عجزها عن استصدار قرارات دولية تصب في صالح الاحتلال.
ورغم كل محاولات تطويع الضفة الغربية، من خلال الأدوات «الناعمة» مثل: التنسيق الأمني، والمنظمات غير الحكومية المتكاثرة في مدن الضفة، أو من خلال الأدوات «القاسية» التي تمارسها دولة الاحتلال من خلال الاعتقالات، وهدم البيوت، وإغلاق المؤسسات، ومصادرة الأراضي، فإن نهج المقاومة وإرادة الشعب بالتحرر من الاحتلال عصية على الكسر، إذ شهدت مدن الضفة الغربية تصعيداً ضد الاحتلال، من خلال عمليات عدة نفذها الفلسطينيون، أكدت للعدو أن المقاومة ستظل حاضرة على امتداد خارطة الوطن.
السعودية
شهدت المملكة العربية السعودية أزمة غير مسبوقة، تعددت أشكالها، داخلياً وخارجياً، إذ أدى مقتل الصحفي جمال خاشقجي في سفارتها في اسطنبول، إلى وضعها تحت الضغط والإدانة الدولية، بالإضافة إلى الاستعصاء الذي طال في اليمن، وانتهى بفشل الحملة العسكرية هناك، وكذلك الانقسامات الجارية في أعمدة الدولة السعودية الثلاثة، وهي: العائلة الحاكمة، والمؤسسة الدينية وكذلك العسكرية، والتحديات الاقتصادية التي أبرزها: ارتفاع مستوى العجز في الموازنة، وارتفاع نسبة الدَّين العام، مع تعثر أحلام محمد بن سلمان الاقتصادية، مثل: التراجع عن خطة طرح شركة النفط الحكومية السعودية «آرامكو» للاكتتاب العام. هذا الواقع السعودي، الذي هو نتيجة موضوعية لتحالف الرياض التاريخي مع واشنطن وهواها الغربي، سيطال جميع حلفاء واشنطن، غير القادرين أو الممانعين لإحداث التغيير، وغير المدركين لفكرة أن العالم يتغير، حيث جميع حقائق عام 2018 تؤكد على هذا التغيّر.