الحكومة الأمريكية مغلقة... حتى إشعار آخر
جرت في الولايات المتحدة الأمريكية سابقاً عدة إغلاقات حكومية في مقاطعات وولايات محددة لوحدها بسنين مختلفة، وإغلاق حكومي واحد للحكومة الفيدرالية كُلها بين عامي 1995 و1996، ليعود هذا التعطيل مجدداً منذ أسبوعين حيث أعلن ترامب عن إغلاق حكومي جديد.
يحدث الإغلاق الحكومي الكُلي أو الجزئي في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث تتوقف الحكومة عن تقديم الخدمات غير الأساسية، عندما يفشل الكونغرس أو الرئيس، بتمرير أو توقيع اعتمادات مالية تَعني مؤسسات وعمليات الحكومة الفيدرالية خلال ميزانية العام القادم...الأمر الذي أُعلن عنه مؤخراً بسبب الخلاف حول بناء وتمويل الجدار الحدودي مع المكسيك، بعد أن طلب ترامب 5,6 مليار دولار لبنائه، خلافٌ يظهر إعلامياً بين «الديمقراطيين» المسيطرين على مجلس النواب، و«الجمهوريين» في مجلس الشيوخ، إذ يؤيد «الديمقراطيون» تعزيز بعض الإجراءات لضبط الحدود، لكنهم يرفضون بناء جدارٍ يعتبرونه غير فعّال وباهظ التكلفة.
الخسائر الاقتصادية للإغلاق
دخل الإغلاق الحكومي الجزئي حيز التنفيذ منذ 22 كانون الأول الماضي، وحسب ترامب فإن الإغلاق قد يستمر شهوراً أو حتى سنوات، واصفاً الأوضاع على الحدود مع المكسيك بأنها «قضية أمن قومي». وبناءً عليه فإن الموظفين الأساسيين في الوكالات عالية المستوى سيستمرون في العمل، لكن معظم الموظفين الفيدراليين، الذين تعتبر وظائفهم غير حيوية، سيرسلون إلى المنازل. ووفقاً لمكتب الإدارة والميزانية الأمريكي، عندما حدث الإغلاق الحكومي عام 2013، تم إيقاف عمل حوالي 850 ألف موظف يومياً. ووفقاً لهذا الإغلاق سيستمر الأمريكيون في الحصول على مزايا الضمان الاجتماعي والرعاية الصحية والغذائية، ولكن ستتأخر استحقاقات البطالة، والإعانات الزراعية، واستردادات الضرائب وغيرها.
كلّف الإغلاق الحكومي الذي استمر 16 يوماً في عام 2013، خسارة قدرها 24 مليار دولار، ومن المتوقع أن يخسر الاقتصاد الأمريكي نتيجة الإغلاق الحالي خسائر أكبر مع استمرار الخلافات الداخلية الأمريكية.
قضية أمن قومي؟
هذه الخلافات بين طرفين في الواجهة السياسية الأمريكية من «ديمقراطيين» و«جمهوريين»، ليست جديدة، بل هي استمرار لحالة الانقسام العميق الحاصل في الإدارة الأمريكية حول أولويات السلوك الأمريكي ضمن المعطيات الجديدة، أي ضمن حالة التراجع الأمريكي وحول صيغة هذا التراجع، والتي باتت تتمظهر حول قضايا مختلفة وفي مناسبات عدة، وهي ليست محصورة فقط بين «الديمقراطيين» و«الجمهوريين»، بل داخل كل منهما أيضاً، بمصالحهم الاقتصادية المتفاوتة.
الجديد هنا في هذا التوقيت من الانعطافات الدولية هو مدى تدهور الاقتصاد الأمريكي ليحدث به خلاف من هذا الحجم، وأن تجري «مفاوضات» لأجله بين أعضاء «الديمقراطي» و«الجمهوري»، وبين الكونغرس وإدارة ترامب، ليجري مؤخراً تصعيد من قبل ترامب نفسه عندما صرّح بأنه يستطيع إعلان حالة الطوارئ الوطنية وبناء الجدار دون موافقة الكونغرس: «يمكنني أن أفعل ذلك إذا كنت أريد».
تصاعد الخلافات الأمريكية
من جهة أخرى، يبدو أن قضية تمويل الجدار مع المكسيك ستعمّق وتسرّع من الخلافات الداخلية الأمريكية الموجودة أصلاً، ففي تحدًّ واضح لقرار الرئيس ترامب، أقرّ مجلس النواب، الذي يسيطر عليه «الديمقراطيون»، نصين تشريعيين لإنهاء الإغلاق الحكومي، لا تتضمن تمويل بناء جدار فاصل على الحدود مع المكسيك، حيث يضمن أحد النصين تمويل معظم الإدارات الفدرالية المغلقة حالياً لغاية 30 أيلول، أي لنهاية السنة المالية الحالية، في حين يُمول النصّ الآخر لغاية 8 شباط الميزانية الحساسة لوزارة الأمن الداخلي المسؤولة عن ضبط الحدود، وذلك بهدف إتاحة الوقت الكافي للتوصّل إلى حلّ لهذه المسألة الخلافية. ورغم أن هذين النصيّن لا يزالان يحتاجان إلى موافقة مجلس الشيوخ، وتوقيع الرئيس، لكن ما يمكن استشفافه من موقف مجلس النواب هو مدى الانقسام الأمريكي، وسعي أعضائه إلى تعطيل قرارات ترامب.
من إجراءات تخفيف أزمة الدولار
فيما يخص مسألة الحدود، فمن حق أية دولة أن تضمن معابرها بالطبع، ولكن أمريكا دوناً عن غيرها كانت مستفيدة من هذا الوضع الحدودي مع المكسيك لإطعام رساميلها من ذاك التيار الفاشي قبل غيره عبر تبييض أموالهم، وتجارة المخدرات والسلاح، ودخول قوة عمل بأيادٍ أرخص... ولكن مع تغير الميزان الدولي وتعمّق الأزمة الرأسمالية وأزمة الدولار، تسعى واشنطن أكثر للانكفاء نحو الداخل، وللحد من «تهريب العملات» وتبييضها، أي: تجميع الدولار، والبحث عن مصادر اقتصادية داخلية بغاية تحقيق استقرار اقتصادي بحدّه الأدنى، لمواجهة انهيار سوق الدولار عالمياً، الأمر الذي يعبر عنه ترامب بكونه مسألة «أمن قومي».
ديمقراطيون، جمهوريون... وشعب!
ينعكس تعارض المصالح الاقتصادية هذا سلباً على مجمل البلاد، إذ حتى تاريخ كتابة هذا المقال يصبح الإغلاق الحكومي الحالي ثالث أطول إغلاق في تاريخ البلاد، دون أية نهاية تلوح في الأفق مع تعثر المفاوضات. ومع توتر الأجواء وبهذا الحجم من التصاعد، وعلى إثر الإغلاق الحكومي، وتأثيره على حوالي مليون موظفّ إما في إجازة أو يعملون دون أجر، يضاف إلى ذلك الوضع الأمريكي المستجد تراجعاً على الصعيد الدولي، والخلافات مع دول أخرى، فمن المتوقع أن تعود إلى الساحة مطالب ولايات محددة بالانفصال عن وحدتها تأميناً لمصالحها، بشكل تنأى فيه بنفسها عن التخبط والتراجع الأمريكي، وتشكل بالمقابل تهديداً للإدارة الأمريكية وتراجعاً وانقساماً جديداً، أو أن يُصعّد «الديمقراطيون» من تعبئتهم حتى خلع ترامب عن الرئاسة، أو عدم تمديده لولاية ثانية على الأقل...ولكن بين هذا وذاك يكون الشعب الأمريكي عالقاً بين فكّي كماشة، يشاهد الاحتجاجات حول العالم، متحيناً فرصته للتعبير.