القدس العربية في معركة إسقاط الوعد والدور الإمبريالي
فجّر خطاب دونالد ترامب يوم 6 كانون الأول الجاري، بأن مدينة القدس عاصمة كيان الغزاة المستعمرين- بركان الغضب العربي والإسلامي والدولي، لما تمثله المدينة من مكانة في الوعي الوطني والقومي والتاريخي والحضاري، والديني، لدى البشرية عموماً. إن المدينة المحتلة (الجزء الغربي) منذ الغزو الاستعماري عام 1948 تاريخ نكبة فلسطين الأولى، وما تبعه عام 1967 من احتلال الجزء الشرقي منها، بما عُرف بعدوان يونيو/ حزيران، تختزل مشهد الصراع الأبدي بين المستعمر، وأصحاب الأرض الأصليين، في عموم الوطن الفلسطيني.
وعد ترامب الإستعماري!
أصر الرئيس الأمريكي على أن يختم عامه الأول في البيت الأبيض، بتحقيق ما وعد به في برنامجه الانتخابي، حول مدينة القدس - على الرغم من هروبه من وعود عديدة لم يف بها- ويبدو أن حاكم البيت الأبيض الذي يعاني من أزمات حادة مع مؤسسات الدولة والحزبيّن، وجمهرة الناخبين حول سياساته الداخلية والخارجية، أراد كسب الجمهور بعد سلسلة الفضائح التي اترتبطت به وبعائلته- سلوكاً وسياسات- بإرضاء المسيحيين الإنجيليين، واليهود الصهاينة، في ما أقدم عليه تجاه القدس. وهذا ما جاء في كلام "جوني مور" الناطق باسم مجموعة المستشارين الإنجيليين للرئيس الأمريكي، لقناة "سى إن إن":( أن الرئيس "ترامب" قد أثبت للمؤيدين الإنجيليين أنه يقول ما يفعل، ويفعل ما يقول).
إذا كان البعض، فلسطينياً وعربياً ودولياً، قد عبّر عن "دهشته ومفاجأته بالقرار/الوعد" فإن ما يثير الاستغراب بالدرجة الأولى: أن يكون الفلسطينيون "سلطةً، وتنظيميات سياسية ومجتمعية" والنظام الرسمي العربي، قد أخذتهم حالة الاستغراب تلك!. مدينة القدس، يتم تهويدها منذ السيطرة عليها. القوانين التي استندت إليها/وانطلقت منها، نلاحظها في مخططات طمس الهوية العربية، والتضييق على المواطنين العرب لدفعهم للهجرة التي تجري منذ السنة الأولى للغزو. وقد شكلت الوقائع على أرض المدينة المحتلة، الأرضية التي اعتمد عليها ترامب لتبرير فعلته (القدس هي: مجلس الحكم »الإسرائيلي» الحديث، هي: بيت للبرلمان »الإسرائيلي»، الكنيست، والمحكمة »الإسرائيليّة» العليا. إنها موقع المسكن الرسميّ لرئيس الوزراء ورئيس الدولة، وفيها مقرّات العديد من الوزارات الحكوميّة). إن المصيبة الحقيقيّة- كما يقول الكاتب والناشط السياسي »مجد كيال» المقيم في مدينة »حيفا» في مقالة منشورة له مؤخراً تحت عنوان: (القدس: كيف تبنى العاصمة »الإسرائيلية»)- ليست في الاستكانة والخنوع أمام القرار الأميركي اليوم، إنما في الموت السريريّ الطويل أمام المخططات »الإسرائيليّة» المتربّصة بالقدس- وهي علنيّة ومكشوفة وواضحةـ وأمام »الإنجازات» التي تحققها »إسرائيل» على الأرض.
الشعب والأمة وأحرار العالم في مواجهة الوعد
فور إعلان القرار/ الوعد، كانت ردة الفعل الشعبية العفوية في فلسطين والعديد من العواصم والمدن العربية، حاسمة في رفضها لما نطق به الرئيس الأمريكي. وعلى مدى أكثر من أسبوعين– حتى يوم كتابة المقال– تحركت قوى سياسية ومجتمعية عديدة في جهات الأرض الأربعة، مستنكرة وشاجبة القرار. كما شهدت المحافل الإقليمية والدولية، مواقف سياسية متضامنة مع الشعب الفلسطيني، ومع »القدس الشرقية» العربية، لأنها كما جاء في القرارات الدولية، خاضعة للاحتلال. لقد شكلت الولايات المتحدة الأمريكية على مدى عدة عقود، مظلة الأمان، والداعم الرئيس لحكومات الكيان، كما شكلت الجدار الاستنادي لحمايته من العواصف الرافضة لوجوده وتوسعه وفاشيته كلها. لهذا، جاء الفيتو الأخير في مجلس الأمن ليحمل الرقم 43 في سلسلة القرارات الأمريكية الحامية لكيان العدو من أية محاسبة . لكن اللافت، أن دول العالم، وهي تستعد لحضور الجلسة الاستثنائية للجمعية العمومية للأمم المتحدة، سمعت تهديدات متتالية من المندوبة الأمريكية المتصهينة »نيكي هالي» ومن ترامب : العقاب لمن يرفض القرار الأمريكي تجاه مدينة القدس !. وهذا، تأكيد جديد لمن على عقله وعينية، غشاوة عن البلطجة والتفرد بالعالم بأوقح وأحط أشكالها. لكن العالم الذي يعاني من الهيمنة والغطرسة الأمريكية، ومن سياسة »التفوق» التي يعبر عنها ترامب وطاقمه، من خلال نظرتهم الـ»دونية» لحكومات الدول،ضد تلك السياسات. ، فقد صوت مندوبو 128 دولة ضد الوعد، في الدورة الاستثنائية الطارئة للجمعية العامة للأمم المتحدة، وامتنعت 35 دولة عن التصويت.أما الدول التسع التي صوتت مع القرار،فأقل مايقال عن معظمها: أنها دول ميكروسكوبية، لا وزن ولا حضور لها في القرار السياسي الدولي.
ميادين المواجهة هي المقياس
إذا، كان هذا هو المشهد السياسي الإقليمي والدولي بتكثيف شديد، فإن لشعب فلسطين وقواه السياسية والمجتمعية، القرار الأول والأخير في إعادة تركيب المشهد وتظهير نتائجه. إن مراقبة ومتابعة انعكاسات قرار ترامب على الحالة السياسية، والمجتمعية الفلسطينية، تشي بأن خطوات سلطة الحكم الإداري الذاتي المحدود، ما زالت بالنهج السابق ذاته: عودة للحياة في المفاوضات، مع راعٍ أو رعاة آخرين لطاولة المفاوضات. إن العبث والتفرد والاستئثار مجدداً بالقضية التحررية للشعب، على أيدي سلطة ترفض التعلم من وقائع الحياة، تتطلب من القوى المؤمنة بالنضال الوطني بأشكاله كلها، بدون إسقاط للكفاح المسلح، مطالبة اليوم بأن تشكل هيئة تنسيق للقوى الملتزمة بتطوير الهبة الشعبية، وتثمير إنجازاتها الكفاحية على طريق إدامة الاشتباك في نقاط المواجهة كلها في حشود شعبية– وهنا أهمية التنسيق مع كوادر وقواعد حركة فتح– من أجل هدف واحد هو: »طرد الاحتلال» . إن قوى الحراك الشبابي بمسمياتها كافة، والتي تتحرك في ساحات المواجهة، مطالبة بأن تضغط على القوى والفصائل من أجل الزج بأعضائها ودفعهم لنقاط الاشتباك، خاصة وأن ما حملته صور مهرجانات واحتفالات الانطلاقة والتأسيس لبعض القوى، والمشاركة الواسعة التي تقدر بعشرات الآلاف، لا تنسجم مع صور بضعة مئات تتواجد في بعض ساحات المواجهات. إن أية حسابات سياسية، ذاتية لهذا الفصيل أو ذاك ، لاتتواءم مع تطوير الحالة الراهنة، وتوسيع المواجهة مع المحتلين، ستصيب الهبة بانتكاسة، وستعمل على كبح خطوات الانتقال للانتفاضة الشاملة على طريق تفكيك المستعمرات وطرد الغزاة.
خاتمة
في الحصيلة الأولية لهبه الأسبوعين الفائتين: تسعة شهداء وأكثر من 3000 جريح و500 معتقل ومعتقلة، يقدمون دماءهم وتضحياتهم من أجل التحرير، وليس من أجل الاستثمار في تنازلات سياسية جديدة.
إن أية رهانات على السلطة في هذه المرحلة، خارج سياقات نهجها وعملها على مدى أكثر من عقدين، سيأخذ شعبنا إلى حالة انتظارية سوداوية. فالحديث عن سلطة وظيفية تنتقل لمواقف نقيضة لدورها المرسوم في اتفاق أوسلو الكارثي، يبدو ضرباً من الخيال، لأن الرد الفوري– وقد تأخر كثيراً- يتطلب: إنهاءَ ما سمي» عملية السلام» وسحب الاعتراف بكيان العدو، وإسقاط اتفاق أوسلو بما تضمنه وتفرع عنه كله »التنسيق الأمني والاتفاقات الاقتصادية و..»والالتزام ببنود الميثاق الوطني.
في هذا المرحلة، التي تتراجع فيها الإمبريالية الأمريكية، وعموم سياسات الهيمنة الاستعمارية، تحت ضربات قوى التحرر والمقاومة في أكثر من مكان، على الشعب الفلسطيني وقواه الوطنية التقدم على طريق إعادة التأكيد على تحرير فلسطين من الغزاة .