«الفاشية الجديدة».. ما تبقّى للمهزومين في عالم يتغير
تشهد السنوات الأخيرة تصاعداً مطرداً بمعدل الهجمات الإرهابية من حيث الكم والنوع، وتتوسع في مناطق جديدة حول العالم، حتى أنها باتت شبه يومية وأكثر دموية في الأشهر الأخيرة، فهل استعصت هذه الظاهرة بالفعل على حكومات العالم، أم أن وقف اتساعها ثم استئصالها أمر ممكن، وبأية شروط وأية أدوات يمكن ذلك؟
رغم التسمية الواحدة لهذه الظاهرة بـ«الإرهاب»، والذي يحمل توظيفها سمات متشابهة في مناطق العالم كلها، إلا أنه ثمة رسائل خاصة لها في كل منطقة بشكل خاص، سواء في أوروبا أو في منطقتنا، ومؤخراً في أمريكا، حيث يمكن فهم ازدياد العمليات الإرهابية مؤخراً وانتشارها بشكل واسع، من بوابة الأحداث الدولية الأخرى والتي باتت أيضاً تغيراتها الكبرى شبه يومية في الطريق نحو تشكل عالم جديد، بموازين قوى وتكتلات سياسية واقتصادية وأمنية جديدة...
الإرهاب بين النتائج والأسباب
في الاجتماع السادس عشر لرؤساء أجهزة الاستخبارات، والأجهزة الأمنية المنعقد في مدينة كراسنودار بجنوب روسيا، يقول سيرغي ناريشكن، مدير «الاستخبارات الخارجية» في روسيا :«أظهرت الأحداث المأساوية الأخيرة في عدد من العواصم والمدن الكبرى في أوروبا، أنه لا يمكن اعتبار أية منطقة أو بلد، جزيرة للرفاه، وأنها محصنة ضد الهجمات الإرهابية، لقد أصبح التهديد الإرهابي جزءاً من الحياة، وخاصة في المدن الكبرى، هذا ما يريد الإرهابيون أنفسهم إقناعنا به، فضلاً عن أولئك الذين يسعون إلى استخدام الإرهابيين لتحقيق أهدافهم الجيوسياسية الخاصة».
ويؤكد ناريشكن: إن هذا مرتبط بعملية الانتقال من عالم أحادي القطب إلى نظام متعدد الأقطاب، موضحاً أن «القطب الأحادي لا ينوي التخلي عن المركز المهيمن وإسقاط سلطته عن الدول الأخرى، فيما الأقطاب الجديدة الصاعدة، لا ترى أي سبب لمواصلة اللعب وفقاً لقواعد نموذج القطب الواحد التي عفا عليها الزمن، وهي على استعداد للدفاع بقوة عن رؤيتها الخاصة للنموذج الأمثل للتنمية».
هنا يمرر ناريشكن رسالتين واضحتي المعالم، الأولى: ربط تزايد العمليات الإرهاب بالتغير الحاصل في منظومة العلاقات الدولية، التي أصبحت قديمة وغير قابلة للتطور نحو أخرى جديدة، والرسالة الثانية: متعلقة بالاستفادة «الجيوسياسية الخاصة» من الإرهاب باعتباره أداة ضغط سياسية، وهي موجهة إلى المراكز الأكثر تطرفاً في الغرب والولايات المتحدة، التي تتبنى عقلية «الفاشية الجديدة»، في محاولة منها لعرقلة التطور الموضوعي في منظومة العلاقات الدولية، والمبني على صعود النموذج الجديد المحمول بشكل رئيس روسياً وصينياً وما حولهما من تكتلات سياسية اقتصادية وأمنية.
نماذج الإرهاب الموجه
بالعودة إلى مسألة التوظيف المتعدد للعمليات الإرهابية، ربطاً بسلوك تيار «الفاشية الجديدة» نجد عشرات الأمثلة، والتي تتم بأدوات متقاربة نوعاً ما، أساسها عمليات التفجير والهجمات المسلحة على مراكز حكومية أو تجمعات مدنية...
كما هو الحال مثلاً في مصر، التي تشهد هجمات إرهابية في سيناء هي أشبه بحرب حقيقة، تجابه فيها قوات الجيش والأمن المصري، هجمات كبيرة ومستمرة من قبل التنظيمات الإرهابية، كان أعنفها في شهر تموز الماضي، وراح ضحيتها عشرات الجنود المصريين، ولم تتوقف العمليات ضد الجيش المصري حتى الآن، في هذا الصدد يمكن القول: إن المطلوب من هذه العمليات الإرهابية بشكل أساسي هو إثقال كاهل الدولة المصرية بمهمات إضافية وصعبة، واستنزاف مقدرات البلاد مالياً وعسكرياً، لإبعادها عن حالة الفعل الداخلي والإقليمي، وإبقائها تحت هيمنة الوصاية الأمريكية، كما كان الحال في السنوات التي تلت توقيع «اتفاقية كامب ديفيد».
في أوروبا يتم استخدام ورقة الإرهاب بأشكال متعددة، أهمها هو: إبقاء حالة الطوارئ غير المعلنة قيد التفعيل، في المرحلة التي تشهد فيه القارة العجوز تغيرات في كافة النواحي الاقتصادية والاجتماعية كافة، وبالتالي إعطاء النخب الحاكمة هناك صلاحيات مطلقة لضبط الحركات الاجتماعية المحتملة كافة، الرجعية منها والتقدمية، وتحديداً في فرنسا التي تشهد غلياناً في الشارع، ضد سياسات الحكومة الحالية كما سابقاتها، حيث وافقت الجمعية الوطنية الفرنسية «مجلس النواب» مؤخراً على قانون جديد لمكافحة الإرهاب، الذي يوسع مجدداً نطاق صلاحيات سلطات الأمن في البلاد.
في سورية، تظهر واشنطن في دائرة الاتهام الروسي، بدعمها للإرهاب علناً، حيث أعلنت وزارة الدفاع الروسية على لسان المتحدث باسمها، إيغور كوناشينكوف، في 4 تشرين أول الحالي، أن «دعم الولايات المتحدة للإرهابيين، يمثل عقبة رئيسةً أمام القضاء على تنظيم «داعش» الإرهابي في سورية»، وقال كوناشينكوف: «على ما يبدو، نجاحات الجيش السوري بدعم من القوات الجوية الفضائية الروسية في التحرير السريع لوادي الفرات تتناقض مع خطط الزملاء الأمريكيين». مشيراً إلى أن «الهجمات الأخيرة للإرهابيين كلها انطلقت من منطقة التنف على الحدود السورية-الأردنية التي تقع فيها البعثة الأمريكية، والتي لم يسمح الأمريكيون للجيش السوري، الذي يلاحق مجموعات إرهابية بالاقتراب منها»، مضيفاً بلهجة التهديد : «إذا كان الجانب الأمريكي يعتبر هذه العمليات «حوادث غير متوقعة»، فإن القوات الجوية الفضائية الروسية في سورية مستعدة لبدء تدمير «مثل هذه المفاجآت» كافة، في المنطقة الخاضعة لهم -الأمريكيين-».
ويمكن التأكيد على الاستخدام السياسي لأداة الإرهاب، بالنظر إلى منهجية التزامن في العمليات الإرهابية من حين إلى آخر، ففي غضون 24 ساعة فقط شهدت مؤخراً كل من فرنسا والولايات المتحدة وكندا عمليات إرهابية راح ضحيتها 53 شخصاً وجرح حوالي 400 آخرون، في عمليات تبناها تنظيم «داعش».
على الرغم من تعقيد المشهد، وصعوبة السيطرة على الحوادث المتزايدة، إلا أن مربط الفرس يكمن في عزل أدوات الإرهاب عن الصراع السياسي الدولي القائم حالياً، فيما لو توفرت الإرادة الصادقة من قبل الغرب من أجل ذلك، وهو ما زال بعيد المنال حتى اليوم، فحتى تنظيم «داعش» المتمركز أساساً في سورية والعراق وليبيا، ترفض الدول الغربية التعاون العسكري والاستخباراتي المتكامل مع القوى الدولية الأخرى لمكافحته وعلى رأسها روسيا، ومن الصعوبة بمكان تحديد الآجال الزمنية لانتهاء هذه الظاهرة، طالما أن الصراع الدولي على أشده في الأصعدة كافةً، لكن المؤكد أن مستوى الاستثمار السياسي للإرهاب ينخفض تدريجياً، طالما أنّ أوزان القوى الصاعدة لا تتأثر مباشرة بهذه الأداة الرخيصة، وطالما أن مشروع تلك القوى قائم على إخماد بؤر التوتر حول العالم بشكل حقيقي، إنما تبقى الشعوب هي المتضرر الأكبر والمباشر مع استمرار هذه الظاهرة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 831