كتالونيا... صدع أوروبي جديد
أعلنت حكومة إقليم كتالونيا نتائج الاستفتاء بشأن الانفصال عن إسبانيا، بتأييد 90% من المصوتين للانفصال، والذين بلغ عددهم 2.26 مليون شخص، بنسبة مشاركة بلغت 42% من سكان الإقليم، وتعتبر الحكومة المركزية في مدريد الاستفتاء لاغياً وغير دستوري، في الوقت الذي تصرّ فيه حكومة كتالونيا على المضي قدماً في تثبيت خيار الانفصال ولو كان من طرف واحد...
يقول رئيس حكومة إقليم كتالونيا، كارليس بيغديمونت، في تصريح لـوسائل الإعلام في أعقاب الاستفتاء: إن الإقليم سيعلن الاستقلال في غضون أيام، مضيفاً: «إن حكومته ستتحرك هذا الأسبوع أو الأسبوع المقبل على أقصى تقدير»، هنا تحاول حكومة الإقليم تثبيت نتائج الاستفتاء وما بعده كأمر واقع على الحكومة المركزية في مدريد، مع بقاء إمكانات الحوار مفتوحة، حيث يدعمها كلا الطرفين من حيث المبدأ...
صراع الإرادات بين الحكومتين
في المقابل تصرّ الحكومة المركزية في مدريد على بطلان الاستفتاء دستورياً، وعلى حقها في محاسبة المسؤولين الداعمين له، وهو ما بدأت به فعلاً قبل أيام على الاستفتاء الذي جرى في 1 تشرين أول الحالي، حيث نفّذ الحرس المدني الإسباني في 20 أيلول الماضي عملية خاصة تم خلالها توقيف 12 شخصاً من بينهم مسؤولون في الحكومة ومؤسسات الإقليم.
كما أنها قبل ساعات من الاستفتاء قامت بإغلاق 1300 مدرسة في الإقليم من أصل 2315 خصصتها السلطات المحلية هناك للاقتراع، لتشهد مدن الإقليم في يوم الاستفتاء صداماً بين الناخبين وقوات الأمن والشرطة، التي استخدمت الرصاص المطاطي لمنعهم من الوصول إلى مراكز الاقتراع، وأدت المواجهات بحسب «جهاز الإسعاف» في كتالونيا إلى إصابة مئات الأشخاص بجروح.
أوروبا المنتجة للأزمات
من المؤكد أن للاستفتاء الأخير أسباباً تتعلق بالوضع في إسبانيا ككل، من الناحية الاقتصادية والسياسية، لكن التناقضات الداخلية الخاصة بإقليم كتالونيا فيما يخص علاقته بالحكومة المركزية ليست بالجديدة، ويمكن تأريخها على أقل تقدير بأربعةِ عقود من الزمن، وانفجرت في لحظة سمحت بها الظروف الموضوعية الداخلية والخارجية المحيطة بهذا البلد، نحاول هنا البحث في الشق الثاني المتعلق بالظروف التي فتحت الباب واسعاً أمام الخيارات المشهودة اليوم...
عند البحث في الحركات الانفصالية الأوروبية، نجد أن هذه الظاهرة لا تقتصر على إقليم كتالونيا فحسب، بل أن أوروبا تحتوي عدداً كبيراً من الساحات المشابهة، كما هي الحال في دول بريطانيا وبلجيكا وإيطاليا وغيرها، التي لديها قوى سياسية تدعو إلى الانفصال، أو إلى توسيع صلاحيات الحكم الذاتي لمناطق معينة داخل هذه الدول، لكن مرحلة الاستقرار النسبي الأوروبي، المحمول أساساً على الهيمنة الأمريكية عالمياً في العقود الأخيرة، سمح بتغطية هذه النزعات الانفصالية وتأجيل البحث عن حلول لها، طالما أن الاتحاد الأوروبي «المتجانس» سياسياً واقتصادياً في حينها، كان مسيطراً بقوة على هياكل الأنظمة السياسية في كل بلد أوروبي على حدة، وبما يتناسب مع توجهات هذه التكتل الإقليمي «الاتحاد الأوروبي»، والدول الكبرى فيه على وجه التحديد.
وبالتالي: يمكن القول: إن تراجع «ريع القوة» الأمريكي، وتراجع حصة أوروبا من النفوذ الاقتصادي والسياسي لصالح قوى دولية صاعدة كروسيا الصين، وما يحيط بهما من تكتلات دولية جديدة، أنتج جملة من التصدعات داخل الاتحاد الأوروبي، أبرزها وأكبرها كان خروج بريطانيا من هذه المنظومة، وليس آخرها ما نشهده اليوم في إسبانيا، كنتيجة موضوعية لانحلال فضاء سياسي دولي مرسوم أمريكياً في مرحلة سابقة بما فيه الاتحاد الأوروبي، وبداية تشكل فضاءات سياسية واقتصادية على أساس موازين قوى جديدة تفرض وجود «أوروبا جديدة» متلائمة سياسياً واقتصادياً مع المنظومة الدولية الآخذة بالتشكل.
حول حق تقرير المصير
قبل الحديث عن المزاج الشعبي المتشكل حول الاستفتاء، من الضروري الإشارة إلى بعض التفاصيل العامة المتعلقة بخصوصية هذا الإقليم، وتحديداً الاقتصادية منها..
يسهم إقليم كتالونيا بحوالي 19% من الناتج المحلي الإسباني، ويحتل المرتبة الرابعة من حيث حصة الفرد من الدخل الوطني. يقول كريستوفر ديمبيك، رئيس قسم التحليل الشامل لدى «ساكسو بنك»، «ما زالت الصناعة تشكل ركيزة أساسية في الاقتصاد الكتالوني، على العكس من مناطق عديدة تراجعت فيها أهمية القطاع الصناعي، إذ ما زال النشاط التصنيعي المحلي قوياً، ما يستحضر إلى الأذهان لقب «مصنع إسبانيا»، الذي أطلق على المقاطعة في الماضي»، مضيفاً: «تتمتع كتالونيا باقتصاد منفتح على العالم إلى حد بعيد، مع فائض في موازنتها التجارية بنسبة 15% من الناتج المحلي الإجمالي لعام 2015».
أما فيما يخص المزاج الشعبي الداعي للانفصال في كتالونيا، فهو يرتكز على مرحلة سابقة من الاضطهاد القومي، والذي مارست الجزء الأكبر منه، حكومة الجنرال فرانشيسكو فرانكو، أواسط القرن الماضي، واستمر لعدة عقود، قبل أن تتبدل الأوضاع السياسية في إسبانيا وأوروبا عموماً، في المرحلة التي شهدت استقرار القارة وتثبيت هيمنة الغرب وأمريكا على الخارطة الدولية، حينها تم التوافق على صيغة سياسية في إسبانيا، تعطي لكتالونيا صلاحيات حكم ذاتي موسعة سياسياً واقتصادياً وثقافياً.
تتقارب أسباب «النخب» الحاكمة في كتالونيا بالدفع اتجاه خيار الانفصال، مع بعض الأسباب الداخلية لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والمقصود هنا: التخلص من الأعباء الاقتصادية الواجب دفعها، نتيجة التفاوت في إنتاجية أقاليم البلاد، في الوقت الذي تخلصت فيه بريطانيا من الأعباء الاقتصادية المماثلة لكن المدفوعة للدول الأخرى ضمن الاتحاد الأوروبي، وكذلك يمكن مقاربة الحالتين السابقتين أيضاً مع مساعي انفصال «ولاية كاليفورنيا» الغنية عن الولايات المتحدة الأمريكية. من هنا يحتفظ سكان إقليم كتالونيا بحقهم في إبداء الرأي، حول مستقبل الإقليم، وفي رفضهم للعنف، وأيضاً للهجة التهديد من جانب الحكومة المركزية، التي وصلت إلى وصف رئيس الحكومة ماريانو راخوي، المشاركين بالاستفتاء بـ«أعداء دولة القانون» و«الشعبويين»، لكن في الوقت نفسه يبقى الطريق الوحيد لنيل المطالب المحقة، هو من خلال التأكيد على وحدة الشعوب وتعزيز قدرتها عل العيش المشترك، في سبيل تقرير المصير ونزع بؤر التوتر المحتملة، التي إن تفجّرت فلن تدفع ثمنها سوى شعوب تلك المنطقة مجتمعة
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 831