الأزمة المتجددة وعقبات تشكيل الحكومة الفلسطينية
تتفاعل الأزمة السياسية الفلسطينية بحدة داخل التشكيلات السياسية_ مؤسسات وقوى _ منذ عدة أشهر، مترافقة باستمرار العدوان الوحشي على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الفلسطينية. وقد انتقلت تفاعلاتها قبل بضعة أسابيع لتضرب البنية المجتمعية عبر أشكال من الممارسات العنيفة التي استهدفت منظومة الأفكار "البيانات والتصريحات الصفراء المسيئة للمقاومة والوطن"، وقيادات بارزة في المؤسسات "تطويق رئيس الوزراء على باب المجلس التشريعي، اغتيال "جاد تايه" أحد قادة جهاز المخابرات ومرافقيه.
وقد عكس ذلك درجة الشحن التي يرتفع منسوبها لدى حركتي "فتح" و"حماس"، وهو ماتداولته قيادات كل منهما في تحميل الآخر، نتائج الفشل المتلاحق في تشكيل ما اصطلح على تسميته "حكومة الوحدة الوطنية".
وإذا كانت الحوارات الماراثونية الممتدة لعدة أشهر قد تمخضت عن التوافق شبه الجماعي _ رفضته حركة الجهاد الإسلامي _ على وثيقة سجن "هداريم" المعروفة بوثيقة الأسرى، والتي أصبحت "وثيقة الوفاق الوطني"، الملتزمة بها كافة القوى التي ستشارك في الحكومة الموعودة. وما بين الوثيقة و"محددات البرنامج السياسي" لتلك الحكومة التي وضعها عباس وهنية، لاحت في الأفق بوادر الانفراج! لكن التفاعلات الداخلية _ داخل كل فصيل _ والضغوطات الإقليمية والدولية ألغت الموعد المقترح 16/9 لاستقالة الحكومة الحالية، والمرتبط بإعادة تكليف إسماعيل هنية تشكيل الحكومة "الوحدوية" الجديدة، بل إن المحاصصة الفصائلية قد توضحت من خلال المقاعد المخصصة لكل تكتل، ولعدد الوزراء المستقلين.
مع توجه "محمود عباس" عبر الأردن _التي التقى بها أكثر من مسؤول عربي احتج على إعادة تكليف "هنية" برئاسة الحكومة_ إلى نيويورك لإلقائه خطاباً من على منبر الأمم المتحدة، ولقائه في واشنطن أركان الإدارة الأمريكية "بوش ورايس" واجتماعه مع وزيرة خارجية العدو "ليفني"، أعيدت عملية خلط الأوراق مجدداً والتي أدت إلى تجميد الإعلان عن الحكومة، كاحتجاج من "رئاسة السلطة" على بعض التعديلات التي طالبت بها قيادة "حماس" بشأن بعض بنود محددات البرنامج _ الذي تم الاتفاق المسبق على بنوده مع هنية _ وكخطوة استباقية لأية ردود فعل يمكن أن توجهها الإدارة الأمريكية ودول الإتحاد الأوروبي _ التي تتفاوت بنسب محدودة مواقفها _ لتشكيل حكومة جديدة يترأسها أحد قادة "حماس". وقد توقف العديد من المراقبين أمام التصريحات التي أطلقها "مستشارو" رئيس السلطة "ياسر عبد ربه، نبيل عمرو وقياديون من "فتح" نبيل شعث، محمد دحلان، توفيق الطيراوي، أحمد عبد الرحمن وماهر مقداد، أثناء تعليقهم على الأزمة المتجددة التي تعيشها مؤسسات السلطة، ويعاني منها المجتمع الفلسطيني بكامله. ولهذا جاءت لغة الخطاب السياسي / الإعلامي لهذا الفريق، هجومية ونارية تجاه الفريق الآخر، الذي واجه الموقف بعبارات لاتقل درجة سخونتها عما استخدمه شركاؤهم في الحكومة الموعودة! وهذا ماجاء في ردود محمود الزهار، عاطف عدوان، سامي أبو زهري ومشير المصري.
لقد أعادت تصريحات محمود عباس الأخيرة في القاهرة (الحوارات إلى نقطة الصفر) لكن الأصح أنها وضعتها على حافة الانهيار، لكونها تقترب بالوضع كله من "لحظة الإنفجار". وقد راهن البعض ، وفي مقدمتهم رئيس الوزراء على الزيارة المقررة لرئيس السلطة يوم الثلاثاء 26 الجاري للقاء قيادة "حماس" والتباحث حول القضايا المعلقة والخلافية، كبداية جيدة لانطلاق الحوار مجدداً. لكن إلغاء الزيارة قبل ساعات أشار إلى مأزق جديد في العلاقات بين الطرفين، بالرغم من توضيحات مستشاره "نبيل أبو ردينة" (لن يتوجه الرئيس إلى غزة في المستقبل القريب، لأنه مشغول بعدة مواعيد) والتي أثارت تعليقات عديدة، يبدو أن أكثرها وضوحاً، عبّرت عنه كلمات أحد المسؤولين الفلسطينيين حين قال (إن رئيس السلطة يعتقد أنه لا طائل من وراء ذهابه إلى غزة، بعدما أصرت حركة "حماس" على أن أي اتفاق بشأن الوحدة لن يتضمن الاعتراف بالكيان الصهيوني). وإذا كانت هذه الكلمات تشير إلى إحدى العقبات بوجه إعادة المناقشات، فإن الاشتراطات المسبقة لدخول أو استكمال الحوارات، المستندة إلى إملاءات الإدارة الأمريكية واللجنة الرباعية المنطلقة من مصالح الكيان الصهيوني، والمتممة للاعتراف بالعدو، بالموافقة على نبذ الإرهاب أي وقف المقاومة، والالتزام بالاتفاقيات الثنائية المبرمة بين دولة العدو وممثلي "المنظمة" التي أصر البعض على تماهيها بالسلطة _ والتي لم تلتزم كل حكومات العدو المتعاقبة بأي بند فيها _ وهذا ماحذر منه القائد الأسير "أحمد سعدات" (ليس هناك أي مبرر لمطالبة حكومة الوحدة الوطنية بشروط اللجنة الرباعية، مادام الملف السياسي والمفاوضات من اختصاص منظمة التحرير الفلسطينية ومسؤوليتها، إلا إذا كان المطلوب من كل مواطن فلسطيني إعلان قبوله بالشروط والاشتراطات "الإسرائيلية").
إن إعادة التأكيد مجدداً حول ضرورة الاتفاق المبدئي حول القضية الأهم في أجندة أي حوار، وهي وحدة الموقف من الاحتلال ومواجهته، والبناء عليها في تشكيل الائتلاف والتحالف، خاصة على ضوء التجربة الكفاحية الفلسطينية الممتدة على عدة عقود من التضحيات، تتطلبها الآن الحاجة لوضوح الرؤيا، ولإزالة الالتباسات التي يصر البعض على إشاعتها حول مفهوم الحكومة الوطنية. إن مهام أية حكومة وحدة وطنية تلخصها كلمات الأمين العام لحزب الله في خطبته بمهرجان الانتصار ببيروت (حماية الوطن، بناء الدولة "السلطة" العادلة والقوية والقادرة والنظيفة _ لافساد ولامفسدين _ هذا البناء الذي يعالج الأزمات المعيشية والاجتماعية للمواطنين).
إن البعض في مؤسسة الرئاسة وحواشيها يجاهرون بأن مواصفات حكومة الوحدة الوطنية ستكون استجابة لـ(رغبات الممولين والمانحين ولإدارة بوش وملحقاتها الدولية والإقليمية والمحلية) وخاصة تحقيق شرط الاعتراف بكيان العدو. هذا الاعتراف الذي يتم دفع الحكومة الفلسطينية لتحقيقه، بالرغم من رفض غالبية أبناء الشعب الفلسطيني له حسب استطلاع أخير أجراه مركز بحثي هام. وهذا ماتناوله الكاتب والخبير بالشؤون الفلسطينية "داني روبنشتاين" بجريدة "هآرتس" يوم 25/9 (منذ قمة مدريد وأوسلو تواصل الاستيطان وتضاعف عدد المستوطنين، واشتد الحصار الاقتصادي على غزة والضفة، وتصاعدت التصفيات والاجتياحات وارتفع عدد الحواجز. إن الرسالة الإسرائيلية واضحة جداً : ليست أمامكم أيها الفلسطينيون فرصة بالمرة. اعترفتم بإسرائيل فحصلتم في المقابل على تحطيم آمالكم وتطلعاتكم القومية. فلماذا تعود حماس إلى نقطة الاعتراف ذاتها التي رأينا بأم أعيننا ماالذي تسببت به وآلت إليه؟).
إن اصطفافاً وطنياً حقيقياً، يستند إلى مواجهة المحتل وتصعيد المقاومة وحماية وحدة النسيج الاجتماعي، هو الذي سيشكل الأرضية الصلبة لتشكيل أية مؤسسة رسمية تأخذ على عاتقها تحقيق رغبات وآمال شعبها. وهو القادر على إعادة صياغة العمل الوطني بشكله الائتلافي الجماعي، بعيداً عن حالات الاستئثار والتفرد، أو الإنشاد لحالة الاستقطاب الثنائي في تحديد راهن ومستقبل القضية. إن دعوات البعض بضرورة "حل المجلس التشريعي وإجراء انتخابات مبكرة" لاتعدو كونها الخطوة الأخيرة في العملية الانقلابية على نتائج الخامس والعشرين من يناير الماضي، وهو مايمكن استخلاصه من تصريحات "عزام الأحمد" رئيس كتلة فتح في المجلس التشريعي (الانتخابات المبكرة التشريعية والرئاسية ستكون الحل المنطقي للأزمة، لأنها ستنهي مشكلة الرأسين) أي العودة إلى حالة التملك والتفرد التي امتدت لعقود، عانى خلالها شعبنا الكثير من المآسي في ظل قيادة التنظيم الواحد. إن هذا التوجه يسقط ورقة التوت التي غطت عورة الكثيرين، الذين أصروا على تحويل المعاناة المعيشية الرهيبة الناجمة عن الاحتلال والحصار إلى مكاسب فئوية، يتم استثمارها في تعميق مأزق الحكومة والمجتمع. إن أية إجراءات تتوارى خلف مثل تلك الدعوات، لاتمتلك أي مسوغ قانوني لها، لأن النظام الأساسي الفلسطيني لايوفر لرئيس السلطة الصلاحية القانونية لحل المجلس.
إن أولى الخطوات على طريق تنفيس أجواء الاحتقان المتنامية في ظل ثنائية الاستقطاب، يتطلب وقف الحملات الإعلامية النارية بين الطرفين، كخطوة على طريق كبح جماح التوتر الميداني. إن مهمة وطنية استثنائية تنتظر القوى الأخرى، التي لم ترتهن بموقفها لصراع قطبيّ الرئاسة والحكومة، لأن الاضطلاع بهذا الدور المصيري، سيساهم بإعادة تصويب مسار الحوارات والنقاشات، عبر توسيع دائرة المشاركة والفعل لقوى وكتل تبدو "هامشية وصغيرة"، لكن إنجاز تحالفها وائتلافها مع ناشطين مستقلين داخل الحركة الوطنية، غير مرتبطين بنشاطات مشبوهة لمنظمات وهيئات تعتمد التمويل الخارجي الأجنبي، سيوفر عوامل ضبط الاندفاعات الضارة لرموز يكشف تطور الأحداث ارتباطها بحلف الأعداء التاريخيين.
في المعركة الدائرة والمحتدمة منذ عدة عقود مع الغزو الصهيوني/ الاستعماري لوطننا، تبرز أهمية بناء أدوات المواجهة معه، والتي لابد وأن تستند إلى ثقافة المقاومة، التي يترجمها على الأرض وبين الجماهير، مناضلون يمتلكون الأخلاق والسلوك القويم والقيم النبيلة ونكران الذات. إن خطوات جادة ومسؤولة على طريق ترتيب البيت الفلسطيني "سياسياً، ثقافياً، اجتماعيا" أصبحت ضرورة وطنية، لأنها ستؤسس لعملية التغيير المطلوبة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 282