الاحتلال الأميركي في طريق الفشل الصراع على الغنائم... اقتراب النهاية

■ الاستيلاء على النفط العراقي... هدف استراتيجي.

■ اللغة العربية..تزعج «المستثمرين» الأمريكيين...

■ العقود الأمريكية الضخمة في العراق غنائم حرب!!.

■ الشركات المقربة من «الصقور» تحصل على العقود الأكثر ربحاً من دون إجراء مناقصة علنية.

■ الفساد والابتزاز والتزوير سمات الشركات الأمريكية في العراق... والبنتاغون يغض النظر!!.

صدرت سلسلة من القرارات بتوقيع الحاكم الأميركي للعراق بول بريمر، غيرت بشكل جذري النظام الاقتصادي العراقي، حيث حددت الضرائب عند سقف الـ15% وألغيت الرسوم على الواردات (لتحل مكانها كلفة إضافية بنسبة 5% مخصصة لعملية إعادة الإعمار)، فيما جدد كلياً النظام المالي والنقدي. وسوف تتم خصخصة حوالى 200 شركة رسمية. أي أن البلد يتحول إلى منطقة واسعة للتبادل الحر.

عملية الإصلاح الأكثر إثارة للجدل هي التي تناولت «عدم قوننة» الاستثمارات الأجنبية. فالقرار رقم 39 الصادر في 19 أيلول، لا ينص على أي جهاز أو آلية للرقابة على الاستثمارات الأجنبية، كما تم إرساء قوانين أكثر ليبرالية حتى من تلك القوانين المطبقة في الولايات المتحدة أو في بريطانيا.

وهكذا حصلت الشركات المتعددة الجنسية على كل ما كانت تتمناه أو على معظمه. بالطبع برزت بعض الأصوات غير الراضية، لأن الصناعة النفطية قد اعتبرت «ثروة عامة»، وأغلقت بالتالي في وجه أطماع المستثمرين الأجانب.

كما أن مكتب محامين كبيراً قد تذمر عندما وجد أن «أعمال المحاسبة في الشركات العراقية يجب أن تبقى باللغة العربية». وبالرغم من هذه التحفظات فإن عالم الأعمال غرق في حالة من الغبطة، على أساس أن المبالغ المذكورة لإعادة الإعمار كانت خيالية، وأن إمكانيات البلد، وهو المنتج الثاني للنفط في العالم، هائلة. فالمسألة تتعلق بصفقات العصر، في نوع من هجمة على الذهب و«الدورادو» الاستثمار الحر.

ومن جهة أخرى لا يمكن أبداً اعتبار هذه الإصلاحات شرعية أو أنها سوف تصمد بعد إستعادة السيادة العراقية. غير أن هذه الاعتبارات لا تقلق كثيراً القادة الأميركيين. 

إن مسألة مستقبل العراق الاقتصادي، التي طرحت وطبقت بشكل سيئ، كانت قد أعدت منذ زمن بعيد. فوزير الخزانة الأميركي السابق بول أونيل كشف عن أن استراتيجيا الاستيلاء على العقود النفطية في العراق قد أثيرت منذ الأيام الأولى لبدء إدارة الرئيس بوش، أي قبل أشهر من اعتداءات 11 أيلول عام 2001.

فالعديد من كبار العاملين في الإدارة (ومنهم الرئيس نفسه ونائبه ديك تشيني ومستشارة الأمن القومي غوندوليزا رايس) وهم من عمالقة الصناعة النفطية، كانت تراودهم المطامع في موارد بلد ذي ثروات طبيعية غنية، لقد كان الاعتقاد بأن العراق «المحرر» سوف يستقبل «محرريه» بالزهور. لكن تبين أن إعادة السلام إلى العراق هي أصعب مما كان متوقعاً. وفي خريف العام 2003 ظهرت مبادرات عدة تشير إلى أن الولايات المتحدة تسعى إلى أن تعود مجدداً وبقوة إلى المجتمع الدولي بعد عامين من السياسة الأحادية الجانب والمتشددة. وفي 16 تشرين الأول عام 2003 حصلت من الأمم المتحدة على مصادقة بالإجماع على القرار 1511 الذي شرّع وجودها في العراق. وفي 23 و24 تشرين الأول عقد في مدريد، بدعوة منها، وبرعاية الأمم المتحدة، مؤتمر للجهات المانحة ضم 73 دولة و20 منظمة دولية و13 منظمة غير حكومية. وبنتيجة هذا المؤتمر الذي اعتبره الأميركيون «نجاحاً باهراً» أمكن جمع 33 ملــــيار دولار من المســــاهمات المختلفة. وفي الحقيقة كان الأمر مجرد عملية تجميع غير متجانس وغير محدد من القروض والهبات والمساعدات (التي ربطت غالباً بعقود للشركات الوطنية) وإسهامات ثنائية أو متعددة الطرف، حيث رهنت دول كثيرة مساعداتها بعودة الهدوء وبوضع جدول زمني للمرحلة الانتقالية. وحتى الآن لا يزال الرقم بعيداً عن المطلوب (56 مليار دولار على أربع سنــــوات) الذي اعتبره البنك الدولي ضرورياً للنهوض بالاقتصاد العراقي. غير أن ذلك سمح على الأقل للولايات المتحدة بالاعتزاز بدعم «المجتمع الدولي».

وبعد أيام وافق الكونغرس الأميركي على سلة اقتراحات في الموازنة بلغت قيمتها 87 مليار دولار مخصصة لتمويل حربي العراق وأفغانستان. منها 18.6ملـــيار دولار للعـــقــود العسكرية ولإعادة بناء العراق. وبضغط من البيت الأبيض رفض اقتراح تعديل نص لإنزال عقوبات صارمة بحق الذين يلجؤون إلى التزوير في العقود الرسمية. فما كان من السيناتور الديموقراطي عن إيلينوي، ريتشارد دوربن، الذي كان قد شدد «على العلاقات السياسية الجيدة» التي تتمتع بها الشركات التي استأثرت بمعظم العقود، إلا أنه عبر عن استغرابه: «أنا لا أفهم لماذا يعترض على فكرة ملاحقة أولئك الذين ينهبون في زمن الحرب، الحكومة والمكلفين الأميركيين»...

وفي الخامس من كانون الأول عام 2003، أعلن الرئيس بوش أن السيد جيمس بيكر، وزير الخارجية الأمريكي السابق، سوف يوفد إلى عواصم أوروبية عدة، منها باريس وبرلين وموسكو، للتفاوض على تخفيف الديْن العراقي المقدر رسمياً بـ130 مليار دولار وهو يشكل عبئاً ثقيلاً كفيلاً بالقضاء على جهود إعادة الإعمار. ولأنه، في القسم الأكبر منه، قد تم التعاقد عليه مع طاغية، فمن الممكن أن يعتبر «ديناً مذلاً» يفرض على الشعب العراقي بطريقة غير عادلة. وقد فسر إيفاد بيكر، المؤيد عن اقتناع للسياسة المتعددة الطرف، إلى العواصم الأوروبية بأنه دليل على أن سياسة المحافظين الجدد تبوء بالفشل.

ولم يتأخر الرد في الظهور. فيوم الإعلان عن مهمة بيكر وقّع السيد بول وولفوويتز، مساعد وزير الخارجية، بياناً ينص على أن عدداً من الدول، من بينها فرنسا وألمانيا وروسيا وكندا، لن تحظى بالعقود الرئيسية في عملية إعادة البناء. فالعقود الستة والعشرون، والبالغة قيمتها الإجمالية 18.6 مليار دولار، والتي تتناول جملة أعمال تراوح ما بين إعادة تجهيز الجيش العراقي وإصلاح البنى التحتية النفطية، إلى أنظمة الاتصالات وشبكات جر المياه والإمداد بالكهرباء، سوف تمنح حصراً للدول الثلاث والستين في «التحالف الطوعي» التي شاركت في الهجوم العسكري على العراق أو ساندته. لقد أراد وضع «معسكر المعتدلين» أمام الأمر الواقع. ففي بيانه زعم وولفوويتز أن هذه الإجراءات الضرورية لحماية «المصالح الأمنية الأساسية للولايات المتحدة» تهدف إلى «تشجيع التعاون الدولي فيما يبذل من جهود مستقبلاً» من أجل إعادة الاستقرار إلى العراق. وقد أثار البيان موجة احتجاجات متوقعة ومعروفة. فقد ذكّر الاتحاد الأوروبي بأن هذه القيود تتعارض مع اتفاق منظمة التجارة العالمية حول الأسواق الرسمية، والتي تحظر أي تمييز بين الموردين المحليين والأجانب لدى فتح الأسواق العامة. 

ولكن الرئيس بوش عبر بكل وضوح عن موقف إدارته: «إن مستوى الإنفاق بالدولار الأميركي يعكس واقعاً يبين أن هناك قوات أميركية وغيرها قد خاطرت بحياتها، وبالتالي فان العقود يجب أن تعكس واقع الأمور وهو ما يتوقعه على كل حال المكلفون في هذه الدول». وكانت الإدارة الأمريكية قد تكتمت على النواحي «المركنتيلية» في حرب العراق مكتفية بالكلام على أسلحة الدمار الشامل وعلى تحرير الشعب العراقي. أما الآن فلم يعد على رئيس الولايات المتحدة أن يخفي رأيه القائل بأن من العدل أن تعتبر العقود الضخمة غنيمة حرب، على أن توزع الحصص نسبة إلى الدماء المسفوكة.

وحتى في الولايات المتحدة نفسها يحتدم الجدل حول عقود إعادة الإعمار. 

فقد استولى على الغنائم عدد محدود من الشركات الأميركية وكلها مقربة من إدارة بوش. وحتى الحلفاء البريطانيون الصادقون يبدون مغتاظين لأن عقودهم قد حددت بالنسبة الملائمة لمستوى مشاركتهم وتضطر حكومتهم إلى أن تستجدي سراً نظيرتها الأميركية اتخاذ بعض الخطوات من «التمييز الايجابي».

وبحسب تقرير لمركز «سنتر فور بابليك انتيغريتي» فان الشركات والمقاولين، البالغ عددهم واحدا وسبعين، والذين حصلوا على عقود لإعادة البناء في العراق وأفغانستان قد دفعوا ما يزيد عن 500.000 دولار في حملات بوش الانتخابية، أي أكثر مما دفع لأي سياسي خلال الأعوام الإثني عشر الأخيرة. وبحسب هذا التقرير فإن «تسعة أسواق من العشرة الأكثر أهمية(...) قد منحت لشركة توظف فيها مسؤولون سابقون في الحكومة أو أن مديريها مقربون من أعضاء في الكونغرس، وحتى من الوكالات التي تتولى منح هذه العقود». 

    وان العقود الأكثر ربحاً قد مُنحت من دون إجراء أي مناقصة عامة. فسوق إعادة الإعمار المربح في العراق هو كله تقريباً بين أيدي شركات أميركية، وعلى رأسها شركة «هاليبورتن» (للهندسة البترولية) عبر فرعها «كيللوغ براون وروت» وشركة «بتشل» (للبناء والأشغال العامة)، وكلتاهما مقربتان جداً من صقور الحكم في واشنطن، وإن صح أن لهما بعض الخبرة في العراق. فقد كانت شركة «باكتل»، المقربة جداً من إدارة ريغان، قد حصلت في العام 1983، على عقد لإنشاء خط لأنابيب النفط في العراق بموجب اتفاق تم التفاوض عليه مباشرة بين صدام حسين ودونالد رامسفيلد وزير الدفاع الحالي. أما من ناحية شركة «هاليبورتن» التي كان مديرها العام ما بين العامين 1995 و2000 نائب الرئيس الحالي ديك تشيني، فإنها كانت قد منحت حقاً استثنائياً لمواصلة أعمالها في العراق بالرغم من نظام العقوبات المفروض دولياً.

    وقد أصبحت شركة «هاليبورتن» رمزاً للرأسمال المتواطئ على الطريقة الأميركية. وبحسب ما كشف النائب هنري واكسمان (ديموقراطي عن كاليفورنيا) أنه تم توقيع عقد لاستصلاح آبار النفط، ومن دون استدراج عروض، بين هيئة الهندسة في الجيش الأميركي وشركة «كيللوغ براون و روت»، مشكلاً التزاماً على المدى الطويل. وإضافة إلى إعادة تأهيل الآبار حصلت شركة «كيللوغ براون و روت» على حق إدارة هذه المنشآت وبيع انتاجها، مما يعني أنها أصبحت صاحبة امتياز في قسم من احتياط النفط العراقي. والأفدح بحسب واكسمان أن تمويل هذا العقد قد اقتطع من أموال الأمم المتحدة التي دخلت من برنامج «النفط مقابل الغذاء» والذي أعيدت تسميته على عجل: «صندوق تنمية العراق». ويبدو أن العديد من القوانين والأنظمة قد سنت تحديداً لحماية هذا النوع من الاستثمارات. وهكذا نجد أن بوش قد وقع في 22 أيار عام 2003، القرار رقم 13303 القاضي بحماية الصناعة النفطية في وجه «أي توقيف أو حكم أو قرار أو حق السجن أو إجراءات وأوامر الحجز أو أي إجراء قانوني آخر». ويرى توم ديكاين، المدير الرسمي لـ «غوفرمانت أكاونتابيليتي بروجكت» أن «الصناعة النفطية» قد أصبحت بذلك فوق القانون سواء أكانت أميركية أم دولية.

    وكما حظيت شركة «هاليبورتن» وفرعها بالحماية ضد الأخطار القانونية، فإنها حظيت أيضاً بالحماية في المسائل المالية. فقد تم التفاوض على عقودها بناء على قواعد من نوع «بكمية غير محدودة وبتسليم غير محدود أيضا» (indefinite quantity/indefinite delivery). وفي ذلك إجراءات تبررها الضرورة أو التقلبات التي تسمح للشركة بأن ترفع فواتير التكلفة إلى الحكومة مضيفة إليها هامش ربح يتراوح عامة ما بين 1 و7%. وهذه الإجراءات تفسح المجال أمام كل أشكال الابتزاز وصراع المصالح. وقد ضبطت شركة «كيللوغ براون وروت» مرتين في عمليات اختلاس. فبادرت أولاً إلى رفع أسعار النفط المستورد إلى العراق بنسبة تزيد على 60%، وقد بيع الغالون (بما يزيد قليلاً عن 3.5 ليترات)، بعد شرائه من الكويت بـ 70 سنتاً، من الجيش الأميركي بـ 1.59 دولار بكلفة إجمالية زائدة بلغت 61 مليون دولار. وقد دافعت شركة «كيللوغ براون و روت» عن نفسها متذرعة بتكلفة النقل (مع أن الكويت هي على أبواب العراق) وبالمخاطر المواجهة. ثم بعد أسابيع اتهمت الشركة بأنها زادت فواتير وجبات الطعام المقدمة إلى الجنود الأميركيين بما قيمته 16 مليون دولار. وهناك تقرير صادر عن البنتاغون حول أهلية شركة «كيللوغ براون و روت» (كما عن أهلية شركة بتشل) يتحدث حالياً عن أعمال فاسدة. ولا تشكل الكشوفات من هذا النوع إلا القسم المرئي من جبل الجليد.

ومع ذلك فإن شركة «كيللوغ براون و روت» لا تكف عن عقد الصفقات وعن زيادة ثروتها على حساب المكلف الأميركي والشعب العراقي. كما أن نائب الرئيس تشيني في عداد المنتفعين بهذه النعم، فقد قبض «مستحقات متأخرة» من شركة «هاليبورتن» خلال سنواته الأولى في البيت الأبيض (150.000) دولار في العام 2001 (160.000) دولار في العام 2002 و(178.000) دولار في العام 2003، وهو لا يزال يملك حوالى (433.000) سهم في الشركة تتحدد قيمتها طبعاً بحسب ازدهار أعمال المجموعة.

ولقد بات ينظر إلى العقود العراقية على أنها وسيلة لتحقيق الربح السريع. وها أن ريتشارد بيرل يبرع في اللعبة من موقعين. فهو عندما كان رئيساً للجنة الاستشارية في البنتاغون لعب دور المدافع المتحمس عن توسيع الحرب في العراق (كما في دول أخرى)، وعندما عاد مواطناً عادياً أسس شركة «تريرم انترناشيونال» وهي شركة برأسمال مجازف هدفها الاستفادة من النزاعات العسكرية. كما أن جو أولبوت، المدير السابق لحملة بوش الانتخابية في العام 2000، أسس شركة «نيو بريدج ستراتيجيس» بغية تسهيل حصوله على صفقات في العراق. والسعي نفسه تقوم به شركة المحامين السابقة التابعة لدوغلاس فايث، الرجل الثالث في البنتاغون ومن المحافظين الجدد الصداميين الذي يشرف مباشرة على عملية إعادة الإعمار. وعلى الأرجح أن عملية «التسييس» نفسها نجدها داخل الشركات العراقية. فمن أصل 115 مشروعا موضوعا على جدول السلطة المؤقتة في العام 2003 سوف يمنح 25 مشروعاً لشركات عراقية. ولكن في ظل نظام اقتصادي محروم من أي حماية فمن المحتمل أن لا يستفيد من العقود إلا بعض المبتدئين أو المقربين من قوات الاحتلال أو من مجلس الحكم الانتقالي.

  أما في الواقع فإن المواطن العراقي العادي ليس لديه بعد أي حافز يحمله على الارتياح إلى أن بلاده قد أصبحت «إلدورادو» التبادل الحر. فضخ الأموال الضخمة في اقتصاد مريض والصعوبات الاقتصادية، من التضخم إلى التقنين وانقطاع البترول واستفحال البطالة، قد زادت من الفوضى والمشاكل الأمنية. كما أن «تخفيف الموظفين» في إدارات الدولة وحل الجيش قد زادت صفوف طالبي العمل. في حين أن القوانين الليبيرالية البالغة تسمح للشركات بأن تستقدم على هواها اليد العاملة من الخارج وأن تخرج أرباحها من البلاد بدون أي قيود. 

  إن العراقيين مستبعَدون. ولدى السؤال عن السبب يأتي الجواب بأنهم قد يسعون إلى تسميم قوات الجيش!!.

 

■ إبراهيم ورد