جنازة في غزة وميلاد للمقاومة جديد من يزرع الريح يحصد العاصفة

لايزال صدى «وعد بلفور» الجديد الذي قدمه الرئيس بوش لـ «صديقه» «رجل السلام» شارون يرن صداه في منطقة الشرق الأوسط والعالم أجمع، حيث امتاز بالصراحة وبالانحياز التام لمطالب إسرائيل التوسعية، والمعادية بشدة لحقوق الشعب الفلسطيني وثوابته.

صدمة للعرب!!

وقد أصاب هذا الموقف القيادة الفلسطينية والحكام العرب بصدمة قوية، حتى أن أحد قادة المقاومة قال بأن بوش أطلق رصاصة الرحمة على «خارطة الطريق»، والتي كانت الإدارة الأمريكية ذاتها قد طرحتها، وقبلت بها سلطة الحكم الذاتي ورفضتها إسرائيل، كما أثار هذا الموقف استهجان دول الاتحاد الأوروبي وروسيا.

هل جديد في الموقف الأمريكي؟

إن من يعتبر رسالة بوش لشارون موقفاً أمريكياً جديداً فهو مخطئ وواهم، فالمواقف الأمريكية المؤيدة لإسرائيل، والمعادية للقضايا العربية وحقوقها ثابتة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، فالرئيس ترومان كان أول رئيس دولة يعترف بإسرائيل ويقيم علاقات دبلوماسية معها ويتبنى مطالبها، وسار جميع الرؤساء الأمريكيين الذين جاؤوا بعده على منواله، لكن العداء الأمريكي هذه المرة كان شديد الصراحة والوقاحة، وإن الذين شبهوا وعد بوش لشارون بـ«وعد بلفور» كانوا على صواب، فبلفور البريطاني أعطى وعداً لليهود الصهاينة بوطن قومي لهم في فلسطين مجاناً، لأنه لم يخسر شيئاً من جيبه، وجاء بوش ليتبرع بالقسم الأكبر من فلسطين للإسرائيليين، وعلى حساب الشعب الفلسطيني.

ماذا يعني وعد بوش؟

إن النتيجة المباشرة لـ«وعد بلفور» الجديد هي أن:

1. الولايات المتحدة التي كانت تدعي بأنها «وسيط نزيه» قد انكشفت حقيقته وأنها تخلت عن هذا الدور بمحض إرادتها، مع أنها في الواقع لم تكن في يوم من الأيام وسيطاً نزيهاً.

2. وبهذا الوعد يكون بوش قد أغلق طريق المفاوضات نحو معالجة قضايا الحل النهائي، كمسألة الحدود، وعودة اللاجئين والمستوطنات الإسرائيلية.

3. أنهى دور اللجنة الرباعية الدولية.

ماذا قدم بوش لشارون؟

إن السياسيين والمهتمين بالشأن الفلسطيني لم يستوعبوا كل دلالات رسالة بوش. فكل التعليقات تقريباً انصبت على أمرين خطرين اثنين هما:

■ تبني بوش تبنياً كلياً موقف إسرائيل الرافض للانسحاب من الأراضي الفلسطينية التي احتلتها في حرب 1967 إلى حــدود 4 حزيران واعتبار هذه الحدود ليست مقدسة.

■ وحول عودة اللاجئين إلى وطنهم وديارهم حسب قرار مجلس الأمن 194، فقد دعت رسالة بوش إلى توطينهم في مكان آخر، وبخاصة في حدود الدولة الفلسطينية المسخ التي ستتشكل على ما يتبقى من أراض للفلسطينيين.

قضايا خطيرة أخرى

لكن رسالة بوش تضمنت مسائل أخرى لاتقل خطراً منها:

■ سيكون الانسحاب الإسرائيلي من القطاع دون التفاوض مع الفلسطينيين مدنياً لاعسكرياً ستبقي منشآت عسكرية تراها ضرورية أو ستكون بمثابة «مسمار جحا» في القطاع، فضلاً عن أنها ستظل لها السيطرة على أجواء غزة ومياهها الإقليمية ومعابرها.

■ سيكون الانسحاب من الضفة الغربية محدوداً ولن يكتمل  قبل نهاية عام 2005، ومقابل تكريس تواجد إسرائيل وحقها بالتوسع الاستيطاني في بقية الضفة.

■ إعطاء إسرائيل الحق، حتى بعد انسحابها المنقوص من غزة باسم الدفاع عن النفس، بملاحقة ما يسمى بـ«أعمال الإرهاب» بالوسائل التي تراها . ومن المعلوم أن الإدارة الأمريكية اعتبرت اغتيال الشيخ ياسين والرنتيسي دفاعاً عن النفس، لا عدواناً على القيادات الفلسطينية.

■ تلزم الولايات المتحدة نفسها بعمل مشترك مع مصر والأردن ودول أخرى لمنع أن تشكل المناطق التي ستنسحب منها القوات الإسرائيلية تهديداً لأمن إسرائيل.

وتريد من الحكام العرب أن يكونوا حصان طروادة، وطرفاً في تصفية ما تسميه واشنطن وإسرائيل، المنظمات الإرهابية، وسوقهم كالأنعام نحو الهرولة لتطبيع العلاقات مع الدولة الصهيونية «مكافأة» لها على أعمالها العدوانية وإصرارها على عدم الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة الأخرى كالجولان السوري ومزارع شبعا اللبنانية.

ماالذي شجع بوش وشارون؟

لقد شكل وعد بوش قفزة نوعية في دعم سياسة إسرائيل العدوانية تجاه حقوق الشعب الفلسطيني وتجاه البلدان العربية المحيطة بها. فما الذي شجع بوش وشارون على ذلك؟

1. الصمت الرسمي العربي على ما يجري في فلسطين والعراق، فالحكام العرب صم بكم عمي، أي يبدون عجزاً تاماً حيال التصدي لما يجري بحق أبناء جلدتهم لدرجة أنهم أخفقوا في عقد قمة عربية لتوحيد مواقفهم تجاه القضايا العربية المصيرية وتجاه الإذلال الذي يتعرض له الأشقاء العرب في فلسطين والعراق.

2. استمرار بعض البلدان العربيـــة فــي إقامة علاقات مع إسرائيل وكان آخرها ليبيا التي تسير سيراً حثيثاً نحو ذلك، كما أن الحكام العرب يضعون أصابعهم في آذانهم حتى لايسمعوا حناجر الجماهير العربية المطالبة بقطع العلاقات مع الدولة الصهيونية.

3. استجابة بعض الدول العربية للضغوط الأمريكية والإسرائيلية بتضييق الخناق على المقاومة عبر محاصرتها ومنع وصول المال والسلاح إليها حتى تواجه آلة الحرب الإسرائيلية الضخمة.

هل كان للاغتيالات دور سلبي في المقاومة؟

والسؤال الذي يطرح نفسه: هل أدى اغتيال إسرائيل لعدد من قادة المقاومة إلى جو من الإحباط في صفوف الشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة؟

إن الجواب يأتي بالنفي، فجميع المؤشرات والوقائع تدل على أن المقاومة عازمة على متابعة نضالها:

■ فالقناعات ترسخت لدى الشعب الفلسطيني في التمسك بنهج المقاومة، وأنه لاسبيل غيره، حيث أدى اغتيال الشيخ ياسين والرنتيسي إلى استنهاض الشارع العربي، وبخاصة الفلسطيني لا إلى انحساره.

■ كما أن الوحدة الوطنية الفلسطينية والتفافها حول المقاومة قد تعززت، وقد عبرت صحيفة «الغارديان» البريطانية عن هذه الحالة بقولها: «إن جنازة الرنتيسي كانت أشبه بمهرجان حمل فيه المشيعون أعلام جميع الفصائل الفلسطينية بلا استثناء»، وقالت أنها أفرزت مقاومة جديدة عبرت عنها عنوان المقالة «جنازة في غزة، وميلاد مقاومة جديد».

■ بروز وعي لدى قيادة المقاومة في إعادة النظر بأساليب عملها المقاوم وخاصة الاحتفاظ بسرية زعمائها لتفادي مراقبة العملاء، ومنع العدو من اغتيالهم.

■ وإذا كان شارون قد حقق العديد من المكاسب من خلال «وعد بوش» السخية وإدارته ظهره لزلمه من الحكام العرب  الخانعين له والماشين في ركابه، فإن مثل هذه السياسة سوف تنمي المقاومة وتدفع بالشعب الفلسطيني إلى الانخراط بشكل أوسع في صفوفها لمقاومة السياسة العدوانية الإسرائيلية وإحباط كل خطط شارون وإسقاط أهدافه.

كما أن موقف بوش المهين والوقح للشعوب العربية وقواها الوطنية سيجعل رد الفعل العربي أعنف مما يتصوره والمثل يقول: «من يزرع الريح يحصد العاصفة».

 

■ عادل الملا