«جغرافيا» إيران ومواجهة النيوليبرالية

«جغرافيا» إيران ومواجهة النيوليبرالية

تعاونت روسيا وإيران دائماً، حتى في عهد الشاه رضا بهلوي، الذي أزيح من السلطة بعد «الثورة الإسلامية» في عام 1979 بقيادة الخميني، وكانت توجد بين إيران والاتحاد السوفييتي مشاريع صناعية مشتركة، كما اشترت طهران المعدات العسكرية السوفييتية بشكل متواصل. 

 

من الدارج الحديث عن العلاقات الروسية- الإيرانية، كما لو أنها بدأت بمجرد نجاح «الثورة الإسلامية» في إيران، إلا أنه في الواقع، وفي الحسابات الاستراتيجية التي كان يعمل على أساسها الاتحاد السوفييتي، يمكن القول: أن إيران لم تكن بعيدة بشكل مطلق عن السوفييت حتى في أكثر مراحلها تبعية لواشنطن. حتى أنه في عهد الشاه، حيث كانت طهران الحليف الرئيسي للولايات المتحدة، حرص الاتحاد السوفييتي، من بين مشاريع عدة، على بناء مصنع كبير لتصليح المركبات المدرعة «باباك» مثلاً، والذي يستمر عمله حتى اليوم.

«الثورة» بدأت بعلاقات مشحونة

خلافاً للاعتقاد السائد، بعد «الثورة الإسلامية» أصبحت العلاقات أكثر تعقيداً، بدءاً من الانسحاب الإيراني بعد فترة وجيزة من قيام الثورة الإسلامية 1979 من المادتين 5 و6 من المعاهدة السوفييتية الإيرانية عام 1921، والتي كانت مهمة جداً بالنسبة لموسكو، والتي تتضمن الالتزامات المتبادلة لحظر وجود القوات الروسية والإيرانية داخل أراضي بعضهما. لكن التعاون استمر في المجالات المختلفة حتى خلال حالات المناقشات الإيديولوجية الحادة بين موسكو وطهران.

اليوم، هناك موجة جديدة من التعاون الروسي الإيراني، وهذا أثار غضب واستياء الغرب، ولكن خلافاً لما هو شائع، فإن معظم هذه المشاريع هي ذات طبيعة اقتصادية. وبالطبع، إن كلاً من روسيا وإيران تقفان في موقف مشترك مناهض للهيمنة الأمريكية في العالم، كما هناك مواقف مشتركة متعلقة بالملفات السورية واليمنية، وحتى في ملف النووي الإيراني، وقد استخدمت القوات الجوية الروسية القاعدة الجوية الإيرانية «همدان» في شهر آب الماضي، ومع ذلك، فإن العنصر الاقتصادي من التعاون لا يزال يأخذ البعد الأكثر أهمية.

المصالح المشتركة.. 

والتباينات الضيقة

لدى روسيا وإيران مصالح متباينة في قضايا محددة. إذ تعمل كل من روسيا وإيران لتقاسم موارد بحر قزوين، وتستند وسائلهما على الرغبة في الإبقاء على أهم مناطق النفط والغاز في الإقليم. 

لدى روسيا وإيران أهداف مشتركة في مكافحة الإرهاب، في منطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى. وعلى كل حال، تهدف الدولتان إلى تعزيز العمليات العسكرية والسياسية من أجل الحفاظ على توازن القوى، بما يخالف المصلحة الأمريكية. وبالإضافة إلى ذلك، فإن هناك بعض الأصوات داخل إيران تسعى إلى التقارب مع الغرب، وهذا لا يساعد، بل يؤثر، على العلاقات مع روسيا. وهناك من يرجح سبب عدم تحويل قاعدة «همدان» الجوية إلى قاعدة قابلة للاستخدام المتواتر من الطائرات الروسية، إلى ميل بعض الدوائر الضيقة في طهران نحو عدم استفزاز الجانب الأمريكي بشكل كبير.

كما كشف الصراع في سورية، عن بعض الاختلافات في النهج بين روسيا وإيران، على حد سواء في الجوانب السياسية والعسكرية، وهذا على الرغم من الالتزام المشترك بدعم الجيش السوري، والمؤسسات السورية، والحفاظ على جهاز الدولة قائماً.

الحقيقة، أن روسيا- بوصفها قوة دولية كبرى- لا تقيم وزناً كبيراً للخلافات الإقليمية التي تراها، من منظور استراتيجي، أنها ذات طابع مؤقت، قابل للتحكم فيه، لا سيما عبر المشاريع الاقتصادية الكبيرة، التي من شأنها أن تجرف الخلافات الضيقة بعيداً. وبناءً على ذلك، تريد روسيا مثلاً: تطوير العلاقات مع دول الخليج العربي جميعها، بما في ذلك في مجال التعاون العسكري المدروس. وعلى سبيل المثال، أثناء زيارته الأخيرة إلى موسكو، يقال: إن ملك البحرين قد ناقش إمكانية توريد أنظمة الصواريخ المضادة للطائرات «S-400» الروسية المتطورة، وهو ما قد لا يقبل به الجانب الروسي، نظراً إلى أنه في موضوع السلاح، إنما يقدِّم جانب الحسابات الاستراتيجية على عامل الربح. إلا أن مجرد مثل تلك الإشاعات، قد تستثير بعض الرؤوس الحامية في المنطقة. أما إيران- بوصفها قوة إقليمية كبيرة ذات فاعلية دولية ما- فإنها في حالة من المنافسة الشديدة مع هذه الدول، وتقريباً في حالة مواجهة عسكرية مع السعودية.

وفي الوقت نفسه، فإن موسكو حساسة للغاية اتجاه محاولات الغرب مفاقمة التناقضات بين روسيا وإيران، واللعب على هذا الوتر، ويرون أن ذلك يهدف إلى تدمير الشراكة بين روسيا وإيران وتحفيز عداء إيران تجاه روسيا وشركائها، من خلال التقارير الإعلامية التي تركز مثلاً، على عامل «المنافسة» المفترضة بين روسيا وإيران.

طريقان أمام إيران

تقف إيران اليوم فيما يبدو عند مفترق طرق مهم جداً، فخلال فترة الحصار الاقتصادي الغربي واسع النطاق على النشاطات الاقتصادية الإيرانية، كانت إيران تلجأ إلى «الاقتصاد المقاوم»، المعتمد بشكلٍ رئيسي على تعزيز الصناعة المحلية، وتطوير القدرات العسكرية، وربما ليس من باب المغالاة القول أن ذلك كان السبب الأساسي في توصل إيران إلى حل ملفها النووي بالطريقة التي حلّ فيها.

أما اليوم، وبعد ترقب رفع العقوبات الاقتصادية عنها، فإن إيران أمام استحقاق كبير ونادر، يتوقف عليه الوضع اللاحق لإيران. في الواقع، تعلو بعض الأصوات الإيرانية التي تنادي بشعارات ليبرالية اقتصادية، وانفتاح واسع على الغرب، وفيما لو نحت إيران هذا المنحى، فإنها لن تؤثر على علاقاتها مع موسكو فحسب، بل حتى إمكانية تعزيز مكانتها كقوة إقليمية ذات إطلالة دولية ستكون مهددة. وعليه، يبقى الخيار الأنجع أمام القيادة الإيرانية هو تعزيز العلاقات شرقاً، ومواصلة العمل على مسألة «الاقتصاد المقاوم»، مع المساهمة الفاعلة في تخفيف حدة التناقضات الإقليمية.