المواجهة المؤجلة ومصير المشروع الامريكي

مع اقتراب الاستحقاقات الداخلية الأمريكية من تواريخها المعروفة، ولمحاولة كسب المزيد من التأييد والدعم لسياسة الإدارة الأمريكية الخارجية، بعد فشلها في العراق وتعمق مأزقها السياسي والعسكري، وتأثير ذلك على دعم الناخب الأمريكي لسياسة الجمهوريين، تكرس هذه الإدارة جهدها السياسي العلني والسري إلى المواقع الإقليمية في منطقتنا، والتي تتميز بالتقارب والتشابك والتشاكس في بعض قراءاتها لمجمل التغيرات والتداعيات التي أحدثها الغزو الأمريكي للعراق وطبيعة أهدافه السياسية والعسكرية.

لا يغيب عن الكثيرين أن المشروع  الأمريكي  للمنطقة، والذي أُعد له منذ سنوات، ارتكز بشكل أساسي على النجاح في العراق، ليس بتغيير النظام فقط، بل وفي تحويله إلى نقطة انطلاق للتغيير المقبل في دول الجوار الإقليمي وخاصة سورية وإيران، حيث يصبح احتواء لبنان وتشكيله تحصيل حاصل، وبذا  يُمهد الطريق لسياج من الأنظمة الموالية، التي ستُيسر وبكل أريحية  ظهور مشروع الشرق الأوسط الكبير والذي تُدمج  فيه أنظمة الحكم العربية الأخرى والأنظمة الصديقة والحليفة لواشنطن في المنطقة، لتحقق الإدارة الأمريكية وطغمتها الحاكمة أهدافها الاستراتيجية بالسيطرة السياسية المطلقة على مصدر الطاقة العالمي والتحكم فيه اقتصادياً وسياسياً بما يخدم مصالحها المستقبلية في المواجهة مع دول ناهضة باتجاه القطبية العالمية، وبالوقت نفسه تضمن فيه الأمن الاستراتيجي لإسرائيل وتسوية (الحالة الفلسطينية) كما سماها بعض المتطرفين الإسرائيليين بما يتماشى وإرادة صقور اليمين الصهيوني.

لم تكن حسابات وتوقعات طغمة الحرب في واشنطن تتماهى مع واقع الحال العراقي فغرزت عجلات الاحتلال في وحل أرضه، وتعثرت وتغيرت خططه التكتيكية  العسكرية والسياسية بفعل المقاومة العراقية، وأصبحت دلائل مأزق المحتلين من الخسائر البشرية والمعدات العسكرية وتعثر عمليته السياسية بمحطاتها المختلفة علامات بارزة في مسيرة الاحتلال وواقعه.

إن تحول إيران من موقع جغرافي قابل للتغير في الحسابات الأمريكية  بعد احتلال العراق إلى إحدى أدوات الكبح والتقييد لانطلاقة المشروع الأمريكي، إضافة إلى استخدام إيران للورقة العراقية في صراعها مع الولايات المتحدة في ميدان المنظمة الدولية للطاقة النووية، يعقد من المهمة الأمريكية ويعمق من تداعيات حساباتها الخاطئة.

تواجه الإدارة الأمريكية  تعقيداً متشعباً في العراق ، أساسه خطل حساباتها السياسية والعسكرية، فهي إذ تواجه مقاومةً عنيفة ومنظمة وواسعة في مناطقٍ بعينها وتتسع في مناطق أخرى، جعلتها تسعى للتفاوض مع  بعض أطرافها،  تمعن في الوقت نفسه بدك المدن والبلدات وتمارس الأساليب الوحشية في القتل والترويع وهي لا  تدرك أن ذلك يزيد من حجم القوى التي تناهض الاحتلال ويوسع بيئة المقاومة والمقاومين ويوفر القناعات المتزايدة بالكفاح الشعبي لطرد الاحتلال، ومن جهة أخرى، تحاول إدارة الاحتلال حسر النفوذ الإيراني، بعد أن غضت الطرف عنه، وتطويق امتداداته دون إثارة حساسية الأحزاب الطائفية التي تعاونت معها والمرتبطة بوشائج  قوية مع إيران.

لذلك كانت ولا تزال الرغبة  الأمريكية حثيثة، بغطاء عربي أو إسلامي  تحت أي شعار، ودفع وتشجيع بعض الأطراف للمطالبة  بتواجد عسكري عربي ليتناغم مع الضغط الأمريكي على بعض الأنظمة العربية، لتستطيع من خلاله إدارة الاحتلال بعث رسالة قوية لإيران، بان مواجهتها في العراق ستكون عربية  وليست أمريكية، وبالتالي تفقدها ورقة لعب مهمة تناور بها إيران في صراعها مع الولايات المتحدة، وهذا ما يفسح المجال أمام تأمين إعادة انتشار منظم لوحداتٍ عسكرية ضخمة، يضمن إعادتها إلى قواعدها ارتياحا داخليا أمريكياً  ويخفف من الاحتقان الداخلي للإدارة الأمريكية،  ويساعد في تمكين بوش بإعلان النصر في غزوته العراقية.

إن الضغط والطرق الأمريكي الذي اشتد مؤخرا والذي دفع  بعض الأطراف الأوربية لتتناغم معه، باتجاه سورية  بشكل خاص ولبنان بشكل أساسي، لجهة هز وتفكيك التحالف السياسي السوري الإيراني، ومحاولة حشر وعزل حزب الله اللبناني وإجباره على تقديم التنازلات المطلوبة،  يؤكد ان الإدارة الأمريكية أصبحت في عجلة من أمرها تحت ضغط وضعها الداخلي وتحت تداعيات مأزقها العراقي، لجهة تحقيق وتكريس حكومة ونظام سياسي في لبنان يصبح خنجرا في الخاصرة السورية ويعمل على نزع سلاح المقاومة وتحجيم حزب الله.

لذلك أصبحت السفارة الأمريكية في بيروت (غرفة عمليات) لإدارة الصراع  وفرض الإملاءات السياسية وتفكيك التحالفات اللبنانية وإعادة صياغتها، والتشجيع على عزل وزراء أمل وحزب الله  لتمضي حكومة السنيورة في ما اتخذته وما تنوي اتخاذه بما يتوافق مع الإملاءات الاميريكية والبريطانية والتي حملها وزير الخارجية سترو إلى بعض الأطراف اللبنانية وكذلك مساعد وزيرة الخارجية الامريكية ديفيد وولش،  التي تناغمت مع هذا الرقص السياسي الهستيري، لتبدل من مواقفها ولتلمح وبجرأة خجولة إلى اعتبار سلاح المقاومة هو سلاح مليشيا ينطبق عليه القرار 1559 والى تهديدها بتدويل القضية اللبنانية برمتها.

إن الهجوم السياسي المشترك بزيارة الرئيس الإيراني لسورية وتأكيد المشتركات السياسية في النظر للواقع الإقليمي، ثم تأكيد خطاب الأسد مؤخرا في مؤتمر المحامين العرب على الثوابت السورية، يتوافق مع الخطاب الذي ألقاه الأمين العام لحزب الله في 22/1/2006 والذي شن فيه هجوما على بعض القوى اللبنانية المتوافقة والمتناغمة مع الأجندة الامريكية، وضمنه تحذيرا واضحا لهذه  القوى  ومن يقف خلفها، كما ان تصريحات مفتي لبنان ومواقف بعض الشخصيات والقوى الأخرى بدأت بخلق الرد الشعبي لمحاولات فرض الأجندة الامريكية على لبنان.

إن التوافق الاستراتيجي بين إيران وسورية وحزب الله في لبنان هو حاجز واقٍ ضد محاولة الانفراد الأمريكي بهذه المواقع  الجغرافية التي تقاوم فرض الشروط والتبعية ، وهذا ما استدعى هجوما تكتيكيا مشتركاً،  يحقق تقدما معنويا وسياسيا لهذه الجبهة الإقليمية، والذي سيعزز مواقفها التصادمية مع الإدارة الامريكية، الساعية وراء نصر سياسي واضح ومتميز يخدم مشروعها ويخرجها من حالة الاحتقان الداخلي في مواجهة استحقاقاتٍ انتخابية قادمة، ويدفع بموقفها المأزوم في العراق إلى موقعٍ أفضل في مواجهة متطلباته السياسية والعسكرية.

  ■ كاظم محمد

 

قاسيون (بتصرف)