الانتخابات لا تقرر مستقبل العراق
بصرف النظر عما أسفرت عنه الانتخابات الأخيرة في العراق، فإنه ليس تسرعاً أن يقال إن كل ما يسمى (العملية السياسية) في هذا البلد المنكوب بالاحتلال، لا تزيد عن كونها عملاً تضليلياً أرادته القوة المحتلة للتغطية على احتلالها، وإيهام العراقيين والمجتمع الدولي كله بأن شيئاً يجرى في العراق لإعادة بنائه ونشر الديمقراطية فيه، فضلاً عن أنها تحولت إلى نوع من (البزنس)! والملايين التي صرفت في عمليات الانتخابات المتتالية شاهد على ذلك، وهي بقدر ما كانت وسيلة لكسب المال بالنسبة للبعض، كانت وسيلة لتكريس الطائفية والمذهبية والعرقية، وطريقاً إلى تمزيق العراق وتقسيمه بالنسبة للبعض الآخر، وأيضا باسم نشر الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان.
المهم هو أن ما أسفرت عنه الانتخابات الأخيرة لم يكن مختلفاً عما أسفرت عنه عمليات الانتخابات والاستفتاءات السابقة كلها، والنتائج الأخيرة لن تغير شيئاً حقيقياً في أوضاع العراق. ذلك لأن ما يتطلع إليه العراقيون، باختصار، هو تحرير العراق من الاحتلال. والانتخابات، ببساطة، لا تحرر الأوطان أو الشعوب الواقعة تحت الاحتلال. وفي العراق اليوم، ومنذ الغزوة الأمريكية، قوتان لا ثالث لهما: قوة الاحتلال وقوة المقاومة الوطنية. ويندرج في القوة الأولى العملاء والمتعاونون مع الاحتلال وبعض الجهات حسنة النية التي قبلت الدخول في (العملية السياسية) على أمل أن يساعد ذلك في التخلص من الاحتلال. أما القوة الثانية، فيندرج فيها كل القوى المقاومة للاحتلال بكل أشكال المقاومة المتاحة والرافضة للتعاون مع أضاليله سياسية كانت أو غير سياسية.
فالجمعية (الوطنية) التي أسفرت عنها الانتخابات الأخيرة لن تختلف بحال عن (الجمعية الوطنية المؤقتة) التي سبقتها، حتى وإن أصابها بعض الاختلافات غير الجوهرية. فالطبيعة الطائفية المذهبية العرقية لم تتغير، والأهم الخضوع لقوات الاحتلال وبرنامجها الاستعماري لم يتغير، وهذا لن يتغير ما دام الاحتلال قائماً. إن بعض الجهات التي لم تشارك في الانتخابات السابقة وشاركت في الانتخابات الأخيرة بحسن نية ساهمت، ربما دون قصد، في خدمة أهداف ومخططات الاحتلال وإضفاء نوع من الشرعية على أضاليله وألاعيبه، ولم تخدم مصالح العراق أو مصالح العراقيين. والأيام المقبلة ستؤكد هذا حيث ستكشف فيه أن شيئاً في العراق لم يتغير في الجوهر جراء العملية الانتخابية الأخيرة.
لقد رفضت إدارة جورج بوش جدولة سحب قواتها من العراق، ويصر الرئيس الأمريكي في كل مناسبة على أن قواته المحتلة لن تنسحب من العراق قبل (تحقيق النصر وإنجاز المهمة)! ومعروف للجميع ما يعنيه (تحقيق النصر) في العراق بالنسبة لجورج بوش، كما هو معروف ما يعنيه (إنجاز المهمة) التي جاءت القوات الغازية من أجلها. وباختصار، انتصار القوات المحتلة يعنى هزيمة الشعب العراقي وتقسيم العراق وإدامة احتلاله عبر نشر القواعد العسكرية الأمريكية الدائمة فيه، والسيطرة الكاملة على بتروله، وتقرير مستقبله ونمط الحياة فيه.
ليس في العراق، أو خارج العراق، من لا يعرف لماذا كانت الغزوة الأميركية، وليس هناك من يتصور أن قوة احتلال لها طموح في الهيمنة على العالم انطلاقا من موقع معين يمكن أن تفكر في مغادرة هذا الموقع إلا إذا أجبرت بالقوة على مغادرته. والولايات المتحدة الأمريكية رأت في العراق موقعا تستطيع منه وبالسيطرة عليه أن تفرض هيمنتها على العالم. لذلك فإنه لو تجرأت (الجمعية الوطنية) العراقية التي أفرزتها صناديق الاقتراع التي اشرفت عليها قوات الاحتلال، أقول لو تجرأت هذه الجمعية وتجرأت معها الحكومة التي ستنبثق عنها وطلبت من قوات الاحتلال مغادرة العراق فإنها لن تغادر.
لذلك نعود إلى القول من جديد إن في العراق قوتين: قوة الاحتلال وقوة المقاومة الوطنية. ومستقبل العراق لن ترسم معالمه أو تقرر مساره صناديق الاقتراع وما يخرج منها بل تقرر ذلك المقاومة الوطنية. ولكن لابد هنا من التنبيه والتأكيد أن الأهداف الأمريكية في العراق، والمذكورة في الفقرات السابقة، تستحق لدى الأمريكيين تحمل الخسائر الكبيرة التي تلحقها بها المقاومة الوطنية في كل يوم، كما أن لدى الولايات المتحدة القدرة على تحمل هذه الخسائر لفترة ليست قصيرة، وهي في النهاية لا تستطيع أن تقبل بالهزيمة ما دامت قادرة على تحمل الخسائر لأن هزيمتها في العراق تعنى نهاية الإمبراطورية التي حلمت بها وجاءت لبنائها انطلاقا من العراق.
إن ذلك يجعل من مهمة المقاومة الوطنية مهمة صعبة وثقيلة وربما طويلة ولكنها مضمونة النتائج، خصوصا عندما تتكشف الأكاذيب عن (العملية السياسية) وتزداد الفضائح وضوحا أما ملايين العراقيين الذين ربما ما زال يخامرهم بعض الأمل في صدق مزاعم الاحتلال وقادتهم من المتعاونين معه. وثقل المهمة الوطنية، التي هي طرد الاحتلال وتحرير العراق منه، يلقي المسؤولية على كل طبقات وفئات الشعب العراقي كما يلقي مسؤولية على الشعوب العربية بمساعدة الشعب العراقي وقواه الوطنية، لأن مصير العراق ومستقبله يهم ويؤثر على مصير ومستقبل كل شعوب الأمة العربية وأقطارها في المشرق والمغرب على حد سواء.
■ عوني صادق