قراءة في الجذر الاقتصادي الاجتماعي للانتفاضة الفرنسية في وجه السياسات الليبرالية إضفاء الطابع الاجتماعي على الثروة

تقوم الحكومة الفرنسية بتجذير البرنامج الليبرالي. فبعد إقامتها لخطّة برلو الهادفة لزعزعة المجتمع، وبعد مفاقمتها لإلغاء الحقّ في العمل عبر عقود التوظيفات الجديدة، بالإضافة إلى قيامها بإجراءات مراقبة وعقوبات رهيبة ضدّ العاطلين عن العمل، أخذت الحكومة تساهم في المزايدات الأوروبيّة حول دفع ضرائب أقل.

وبإعادتها لشرائح جدول الضرائب على الدخل من سبعة إلى خمسة وتخفيض النسبة الهامشيّة من 48.09% إلى 40% وسقف الكمّية الكلّية للضرائب المباشرة التي يدفعها المكلّف الضريبيّ بنسبة 60% من الدخل، تفاقم تحويل الثروات إلى الأثرياء. كما أنّ دافعي الضرائب الذين يحصلون على مداخيلهم من ريع عقاراتهم أو أولئك الذين يزيد دخلهم السنويّ عن 116900 يورو هم الأكثر استفادةً نسبياً من إلغاء الإعفاء الضريبيّ عن الـ 20% من الدخل الذي يستفيد منه العاملون بأجر. وتزيد الحكومة من خصخصة الثروة عبر تخفيضها حصّة الضريبة التصاعديّة من مجموع الضرائب.

هذا البرنامج أساسيٌّ بالنسبة للإيديولوجيا الليبراليّة: إذ يترافق نزع الشرعيّة عن الضريبة مع نزع الشرعيّة عن الإنفاق الحكوميّ والخدمات غير السلعيّة لتوسيع الدائرة الرأسماليّة. وفي نظر الطبقات المهيمنة، يقيّم نجاح هذا البرنامج بقدرة تلك الطبقات على مراكمة مزيد من الأموال وكذلك بزيادة ثروتها عبر ضريبة انخفضت إعادة توزيعها.

كيف يمكن استعادة الشرعيّة لإضفاء طابعٍ اجتماعيٍّ على الثروة؟ بمهاجمة جذر الهراء الليبراليّ الذي يعتبر النشاط الحكوميّ غير منتج. إنّ العاملين الموظّفين في مجال الخدمات غير السلعيّة ينتجون قيم استخدامٍ أصيلة. ينبغي التخلّص من فكرة أنّ الضرائب تموّل النفقات الحكوميّة، إذ إنّ هذا التأكيد خادع. هل يقول أحدٌ إنّ أولئك الذين يشترون السيّارات يموّلون إنتاجها؟ لا، فهي تموّل بما يقدّمه رأس المال عبر الاستثمارات والأجور، وهي أموالٌ يسمح إنتاج النقد بتزايدها على المستوى الاقتصاديّ الكبير. تسمح مشتريات المستهلكين بتحويل قيمة السلعة مضافاً إليها العمل إلى مال، ويحقّق الرأسماليّون فائض قيمة.

تقوم المؤسّسات الحكوميّة بالإنفاق: تكون بعض تلك النفقات مشترياتٍ من مؤسساتٍ خاصّة (على سبيل المثال: بناء طريق)، ويمثّل بعضها الآخر إنتاجاً غير سلعيّ. وحين يتعلّق الأمر بمثل ذلك الإنتاج، فإنّ المؤسّسات الحكوميّة، التي لا تهدف إلى الربح، مثلما تفعل الشركات الخاصّة، بل إلى تلبية حاجاتٍ اجتماعيّة، تستثمر وتوظّف العاملين. ما هو الدور الذي تلعبه الضريبة في مجال الإنتاج غير السلعيّ؟ إنّه الإنفاق ذو الطابع الاجتماعيّ على التعليم والصحّة والعدالة... دافع الضرائب لا «يموّل» مراحل الإنتاج الأخيرة، فالتمويل يسبق الإنتاج، سواءٌ أكان سلعيّاً أم غير سلعيّ. ثمّ يأتي الدفع، الخاصّ أو الاجتماعيّ.

صحيحٌ أنّ دفع الضرائب يسمح – مثله في ذلك مثل مشتريات المستهلكين الخاصّة – لدورة الإنتاج بإعادة نفسها من مرحلةٍ إلى أخرى. لكن هنالك أمران غير منطقيّين في الإيديولوجيا الليبراليّة. أوّلاً: إنّ عمّال القطاع الرأسمالي – وليس المستهلكين – هم الذين يخلقون القيمة النقديّة التي سوف يستولي الرأسماليّون على جزءٍ منها، وعمّال القطاع غير السلعيّ – وليس دافعي الضرائب – هم الذين يخلقون القيمة النقديّة، رغم كونها غير سلعيّة في الخدمات غير السلعيّة.

ثانياً، وبالمعنى الحرفيّ للكلمة، فالتمويل يشير إلى الدفعة النقديّة الضروريّة للإنتاج الرأسماليّ وللإنتاج غير السلعيّ وينبغي بالتالي تمييزها عن الدفع.

يسهل فهم السبب الذي يدفع الأثرياء لأن تكون ضرائبهم أقل: فهم لا يريدون أن يدفعوا من أجل الفقراء. لكن لماذا جرى حصر السياسة النقديّة بالبنك المركزيّ الأوروبيّ ومنعت المعاهدة المؤسّسة للمفوّضيّة الأوروبيّة الدول من الاقتراض منه؟ لأنّ الرأسماليّين لا يريدون أن يموّل النقد إنتاجاً لا يقدّم فائدةً مادّية. إلاّ إذا سدّدت دولةٌ ما عجزها بالاقتراض منهم، هم الذين يستفيدون علاوةً على ذلك من تسهيلات القرض المصرفيّ كي يقرضوا بعد ذلك. وهكذا، فإنّ ما يعادل أكثر من 80% من ضريبة الدخل في فرنسا تذهب إلى الدائنين على شكل فوائد.

إنّ الثروة غير السلعيّة ليست اقتطاعاً من النشاط السلعيّ، بل هي «إضافةٌ» تنتج عن قرارٍ حكوميٍّ باستخدام قوى العمل والتجهيزات المقتطعة من الربح. إذن فهي ذات طابعٍ اجتماعيٍّ مزدوج: عبر القرار القاضي باستخدام طاقاتٍ إنتاجيّة، وعبر توزيع عبء الدفع اجتماعيّاً. وهذا أمرٌ لا تتحمّله المخيّلة البرجوازيّة.

 

■ جان ماري آريبي