حتى منظرو الهيمنة الأمريكية ينتقدون بوش
رغم وجود بعض التلميحات مؤخرا على أن الإدارة ربما بدأت بإعادة تقييم أهدافها إلا أنها حتى الآن ما زالت تتسم إلى حد كبير بالشعارات حول تدخلها العسكري غير الناجح في العراق، فخطاب بوش يوم 6 تشرين الأول كان عودة إلى الصياغات الغوغائية التي استخدمها خلال الحملة الانتخابية الرئاسية لعام 2004 لتبرير الحرب التي بدأها هو شخصياً.
تلك الحرب التي دعت لها دائرة ضيقة من صناع القرار لأهداف لم يكشف النقاب عنها بالكامل بعد وتم نشرها بخطاب ديماغوجي اعتمادا على تأكيدات كاذبة وتبين أنها أكثر كلفة بكثير في الأرواح والأموال مما تصوره الكثيرون.
فقد أسفرت عن انتقادات في جميع أنحاء العالم. وأما في الشرق الأوسط فقد وصمت الولايات المتحدة كخليفة للامبريالية البريطانية وكشريك لإسرائيل في القمع العسكري للعرب وسواء كان هذا الوصف منصفاً أم غير منصف فقد أصبح الاعتقاد السائد في العالم الإسلامي برمته.
ولكن المطلوب حاليا أكثر من مجرد إعادة صياغة للأهداف الأمريكية في العراق، فاستمرار التردد من قبل الإدارة في مواجهة الخلفية السياسية لخطر الإرهاب قد عزز التعاطف الشعبي في أوساط المسلمين مع الإرهابيين. فمن خداع النفس أن يقال للأمريكيين إن الإرهابيين مدفوعون فقط أو بشكل رئيسي بمصطلح «كراهية الحرية» وان تصرفاتهم مجرد انعكاس لعداء ثقافي متجذر، فإذا كان الأمر كذلك فعندئذ ستكون ستوكهولم أو ريودي جانيرو عرضة لنفس الخطر الذي يهدد نيويورك. لكن الاستراليين في بالي والأسبان في مدريد والإسرائيليين في تل أبيب والمصريين في سيناء والبريطانيين في لندن كانوا عرضة للهجوم. هناك خيط سياسي واضح يربط بين هذه الأحداث فالأهداف هم حلفاء أمريكا والدول العميلة في التدخل العسكري الأمريكي الذي يزداد عمقا في الشرق الأوسط.
الإرهابيون لا يولدون وإنما يتشكلون بالأحداث والتجارب والانطباعات والكراهيات والخرافات الأثنية والذكريات التاريخية والتزمت الديني والغسيل المتعمد للأدمغة‚ كما يتشكلون بواسطة الصور التي يشاهدونها على شاشات التلفاز وخصوصا من قبل مشاعرهم الساخطة على ما يرونه تشويها وحشيا لكرامة أخوتهم في الدين على يد أجانب مسلحين تسليحا ثقيلاً. فهناك كراهية سياسية شديدة لأمريكا وبريطانيا وإسرائيل تعمل على تجنيد عناصر جديدة في صفوف الإرهابيين ليس فقط من الشرق الأوسط ولكن من أماكن بعيدة أيضا مثل إثيوبيا والمغرب وباكستان واندونيسيا وحتى من منطقة الكاريبي.
كما تضررت قدرة أمريكا في مواجهة حظر الانتشار النووي، فالمقارنة بين الهجوم على العراق الضعيف عسكرياً وتسامح أمريكا مع كوريا الشمالية المسلحة نووياً عززت الاعتقاد لدى الإيرانيين بأن أمنهم لا يمكن أن يتعزز إلا بالأسلحة النووية.
كما أن القرار الأمريكي الأخير لمساعدة البرنامج النووي للهند النابع إلى حد كبير من الرغبة في نيل دعم الهند للحرب في العراق وكقوة لمواجهة الصين جعلت الولايات المتحدة تبدو انتقائية في تشجيعها على نشر الأسلحة النووية، هذه الازدواجية في المعايير سوف تزيد من تعقيد المساعي لإيجاد حل بناء لمشكلة البرنامج النووي لإيران.
وما يثير المزيد من الهواجس والشكوك حقيقة سوء المعاملة المخجلة والتعذيب الذي يمارس في غوانتانامو وسجن أبو غريب والتي كُشفت ليس من الإدارة وإنما من وسائل الإعلام الأمريكية، وفي ردها على تلك الانتهاكات اكتفت إدارة بوش بمعاقبة عدد قليل من المجرمين في المستويات الدنيا بين المسؤولين ولم تعاقب أيا من كبار صناع القرار المدنيين والعسكريين في وزارة الدفاع ومجلس الأمن القومي الذين شرعوا «التحقيق تحت الضغط المتواصل» (أي التعذيب بعبارة أخرى (ولم يتم إجبار أي منهم على الاستقالة ولا على مواجهة الرأي العام أو المحاسبة القضائية)، وأما معارضة الإدارة لمحكمة الجنايات الدولية فقد خدمت الإدارة الآن بأثر رجعي، وأخيرا مما عقد السياسة الخارجية الأمريكية تلك الظواهر الاقتصادية ذات العلاقة بالحرب حيث الإنفاق على الدفاع والأمن تصاعد بصورة دراماتيكية، فموازنات وزارة الدفاع ولوزارة الأمن الداخلي أصبحت الآن أكبر من مجموع موازنات معظم دول العالم ومن المرجح أن يتواصل تصاعدها حتى مع تزايد العجز في الموازنة وميزان المدفوعات التجاري مما حول أمريكا الدولة المدينة رقم واحد في العالم، (..) وذلك في وقت لا تستثمر فيه الأموال على الابتكارات العلمية أو في التعليم وكلها لها علاقة وثيقة بتفوق أمريكا اقتصاديا في المستقبل في مجتمع تسود فيه منافسة اقتصادية شديدة.
يجب أن يفكر المفكرون الأمريكييون في مسألة أن الدول المعروفة بحبها للولايات المتحدة أصبحت تنتقد السياسة الأمريكية وكنتيجة أصبحت مساحات شاسعة من العالم ــ سواء شرق آسيا أو أوروبا أو أمريكا اللاتينية ــ تسعى بهدوء بحثا عن سبل لتشكيل روابط إقليمية (لتصبح) العزلة الجيوسياسية عن أمريكا حقيقية دائمة وخطيرة.
هذه الظاهرة سوف تفيد بشكل خاص أعداء أمريكا التاريخيين أو خصومها المستقبليين.
فالجالسون على قارعة الطريق ويستهزئون بعدم قدرة أمريكا هم الروس والصينيون‚ ومبرر روسيا يكمن في سرورها من رؤية عداء المسلمين يتحول عنها ويتجه نحو أمريكا (..) وأما الصين فلأنها تتبع بصبر استراتيجية معلمها القديم سون تزو الذي علمهم أن أفضل وسيلة للانتصار هي بترك خصمك يهزم نفسه.
لقد كان فريق بوش خلال السنوات الأربع الماضية يعمل على تقويض تربع أميركا على عرش العالم من خلال تحويلها لمشكلة يمكن إدارتها وذات بعد إقليمي في جوهرها إلى هزيمة دولية وبما أن أمريكا قوية وغنية إلى درجة فوق عادية فإنها تستطيع تحمل ذلك ولكن ذلك لبعض الوقت حتى لو كانت السياسة مصاغة بالمبالغة الخطابية ومتبعة بعمى تاريخي، ولكن خلال هذه العملية من المرجح أن تصبح أمريكا معزولة وسط عالم معاد لها وتصبح أكثر عرضة لأعمال إرهابية وتصبح اقل قدرة شيئا فشيئا على ممارسة نفوذ عالمي بناء، في وقت يزداد فيه انقسام الشعب الأمريكي اتساعا وعمقاً (..).