مع بحث شعوبها عن يسار حقيقي... المفكرون يتساءلون  كيف يمكن تفسير الانبعاث الثوري في أوروبا

■ الأسواق المعولمة تبشر بالمزيد من عدم المساواة والفقر!!

■ هل يجب أن يقتصر دور الدولة على تأمين بيئة مناسبة للقطاع الخاص؟ وأين هي من دعم الأمن والتعليم وحماية الفقراء؟

■ قوانين السوق تميل إلى العالمية أكثر منها إلى الوطنية. 

  لم تعكس الانتخابات الخلافية الألمانية مثلها مثل الاستبيان الفرنسي حول الدستور الأوروبي في أيار الماضي الانشقاقات الأيديولوجية حول أوروبا فحسب، لا بل إنها عكست الانشقاق حول أعمق أسس الاقتصاد والمجتمع. إذ ما كان من وراء الانتقاد الموجه إلى الاتحاد الأوروبي بأنه «ليس اجتماعياً بما فيه الكفاية» إلا فكرة تصوّر الاتحاد على أنه شرك أجبر أعضاءه على الانحناء أمام أنظمة السوق الحتمية. شرك منع القادة الوطنيين من تحقيق أهداف اجتماعية أكثر أهمية. 

  في فرنسا، لم يكن هذا التصور حاضراً لدى متطرفي اليمين واليسار ودوائر الديغوليين الوطنيين التقليدين فحسب، لا بل كان حاضراً عند غالبية الناخبين الاشتراكيين الذين قرروا ازدراء قيادات حزبهم المؤيدة لفكرة الاتحاد الأوروبي.

  لم تخمد نيران هذا السجال بعد. بل على العكس، ازداد اضطرامها باقتراب موسم الانتخابات الرئاسية الفرنسية كما حدث في الانتخابات الألمانية.

  يبدو هذا الأمر شديد الوضوح في صفوف الاشتراكيين الفرنسيين، وخصوصاً مع اقتراب مؤتمر الحزب في تشرين الثاني بكامل زخمه، إذ عاد إلى الظهور صراع قديم تعود جذوره إلى تأسيس الحزب. صراع بين رؤيتين: أولاهما الرؤية الاشتراكية الديمقراطية التي تفضل اقتصاد السوق مع السعي لتلطيف الآثار السيئة له؛ وثانيهما وعلى النقيض تماماً الرؤية الثورية التي تمجد «مقاطعة ثورية للرأسمالية».

  يعتقد المرء بأن هذا السجال قد حسم لمصلحة الرؤية الإصلاحية إبان «اختفاء العالم الشيوعي». ولكن الأمر المفاجئ الذي ظهر في الشهور الماضية كان في دعم جزء مهم من الناخبين الاشتراكيين وقيادات حزبهم للتغيير الراديكالي.

  علاوة على ذلك، فقد اتهم جزء كبير من اليسار المعادي لليبرالية المؤلف من الشيوعيين وعلماء البيئة والنقابيين ومؤيدي حركة آتّاك الإصلاحيين بتهميش أنفسهم لمصلحة العولمة لا بل والدفاع عن التغيير الراديكالي للاقتصاد والمجتمع.

  كيف لنا أن نفسر هذا الانبعاث الثوري الذي يبدو أنه يتجاهل الحقائق السياسية الأوروبية والعالمية؟ خاصة بعد انتشار البراغماتية بين الأحزاب الاشتراكية الأوروبية في شمال أوروبا منذ الثلانينينات تلاها الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني بعد مؤتمر باد جوديسبرغ عام 1957.

  لا بد أن يكون هذا التفسير منقوصاً وخصوصاً إذا أخذنا بعين الاعتبار الثورية المشابهة التي تطرأ على اليسار الألماني، حيث قام تحالف يروج لأفكار راديكالية مماثلة في صفوف الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني، الشيوعي سابقاً المحافظ على قوته فيما كان يسمى بألمانيا الشرقية، والتابعين للحزب الذي يقوده أوسكار لافونتان. ويبدو أن أعداداً متزايدة من الناخبين الفرنسيين والألمان فقدت إيمانها بالحلول التقليدية أمام الفشل الواضح الذي منيت به الحكومات اليمينية و«الاشتراكية الديمقراطية» في خفض الموجات المتصاعدة لمعدلات البطالة.

  وصلت دولة الإعانات التي طالما تصاحبت بحركة إصلاح ديمقراطية اجتماعية واسعة إلى نهاية مطاف معاناتها من عجز كبير في الميزانية العامة ومستويات ضرائب غير مدعومة. وبشكل موازٍ عانت الحركة الاجتماعية التي كانت مدعومة سابقاً من دولة الإعانات من انعكاسات حادة. إذ تبشر الأسواق المعولمة بالمزيد من عدم المساواة والفقر وعدم الأمان أكثر بكثير من بشارتها بمنافعها الموعودة في النمو الاقتصادي.

  في ظل هذا الجو الضاغط بقلة الأمل تتقلص الأحلام بالمدينة الفاضلة. بل تدعو الحاجة اليوم إلى نقاش أكثر اعتدالاً يدور حول كيفية التعافي من مساوئ اقتصاد السوق وكيفية الدعوة إلى التضامن. هل يجب أن يقتصر دور الدولة على تأمين بيئة مناسبة للقطاع الخاص؟ وما مستوى مساهمتها في تأمين الدعم للأمن والتعليم والأبحاث والابتكار والتجديد وحماية الفقراء؟

  لن تكون مثل هذه النقاشات مثمرة إلا إذا أخذت بعين الاعتبار القيود الاقتصادية والسياسية التي تعاني منها الدول الحديثة. بالفعل، يغدو دور الدول أكثر تعقيداً في ظل الحقيقة القائلة إن قوانين السوق تميل إلى العالمية أكثر منها إلى الوطنية.

  وبدلاً من الاستسلام لليأس علينا أن نقف وقفة احترام أمام الاشتراكي الألماني ماكس فيبير؛ إذ آنت الساعة التي يجب أن تسود فيها أخلاق المسؤولية على أخلاق تبادل الاتهامات.

■ رافاييل ليبيل

رئيس الغرفة الاجتماعية لمجلس الدولة

 

بروفيسور متعاقد في معهد الدراسات السياسية في باريس