أضواء على «مؤتمر بيت لحم»
مع إسدال الستارة على آخر فصول مؤتمر مدينة بيت لحم، كانت «معجزة فخامة الرئيس»- كما شدد في كلمته الرئيسية بالمؤتمر- تتكشف عن تهاوي ماسمي بـ«الديمقراطية والشفافية» وتفضح خطوات التحضير، وغياب التقارير السياسية والمالية والتنظيمية، وتقديم «كشف الحساب» و تحقيق «المحاسبة» عن انجازات واخفاقات عمل الهيئات القيادية خلال عقدين من الزمن.
لكنها- هذه المعجزة- تتأكد من خلال وصول المؤتمرين للمدينة المحتلة، عبر تسهيلات قوات العدو، وفي ظل رعاية أمنية هائلة، واستفزازية في تواجدها وحركتها داخل المؤتمر! ولهذا جاءت صرخات واحتجاجات واستقالات المئات من قيادات وكوادر «فتح» في مناطق انتشار التنظيم، لتسقط البراقع التي يتستر خلفها دعاة «التجديد و...الانطلاقة الجديدة»(!) خاصة وأن كل الخطوات التي قادت إلى «كلية تراسانطة»، كانت تسير على «طرق التفافية» خارج الشرعية التنظيمية التقليدية. وقد توضح ذلك من خلال الزيادة الهائلة في عدد أعضاء المؤتمر (مايزيد على 2230 عضواً)، حوالي70 % منهم لم يتم انتخابهم وجاؤوا بالتعيين، عبر عملية المحاصصة والتوازنات، التي أشرف على ضبطها «فخامة الرئيس». رغم تأكيد «رئيس السلطة» (ليس كل من حضر المؤتمر يستحق، وليس كل من لم يحضر لايستحق!). لكن اللافت لنظر المراقبين كانت أعداد المرشحين للهيئات القيادية. فقد تقدم للترشيح ثلث عدد أعضاء المؤتمر، في خطوة مفاجئة لكل أصول ومقتضيات العمل الحزبي الداخلي، مما يشير إلى خلل فاضح في الثقافة التنظيمية الحركية.
كما أن نتائج اللجنة المركزية المعلنة رسمياً حتى الآن «تسعة عشر عضواً» بعد أن كانت ثمانية عشر، أصبحت مجالاً للتندر والسخرية، ليس بين الأعضاء والمراقبين، بل على صعيد أبناء الشعب الفلسطيني، الذين أطلقوا مصطلح «لعبة الـ19» على وصول «الطيب عبد الرحيم» للمرتبة التاسعة عشرة، وتساوي اثنين من الأعضاء الفائزين بنفس عدد الأصوات، الذي يعتبر حالة غير معروفة في عمل المؤتمرات، و«مخجلة» كما وصفها أحد الخاسرين بالانتخابات.
إن العديد من الأوراق التي تداولها أعضاء المؤتمر، بالإضافة لما دار في اللجان، وفي حصيلة المداولات والنتائج كما حملتها بيانات المؤتمر ووثائقه، وتصريحات الناطق الرسمي باسمه، تدل على أن المواقف السياسية القادمة للحركة، ستكون متطابقة مع رؤية الرئيس ومعظم أعضاء اللجنة المركزية. ولهذا فإن حديث البعض، عن أن البرنامج السياسي للحركة أكد على المقاومة ولم يلغها، يشكل محاولة للهروب للأمام، بعيداً عن الواقع المعاش منذ سنوات، وتضليلاً مقصوداً، كشفته ممارسات عناصر أجهزة أمن السلطة، «الفلسطينيون الجدد» الذين يتم تصنيعهم وتأهيلهم في معسكرات/ مختبرات الجنرال «دايتون». فالكلام عن ربط المقاومة بالشرعية الدولية، وخاصة عند التركيز على «كل أشكال المقاومة»، يعني استبعاد الكفاح المسلح كشكل رئيس في مقاومة شعب يتعرض للاحتلال والإبادة. لكونه يأتي منسجماً ومتطابقاً مع النهج الذي اتبعه «فخامة الرئيس وطواقمه الأمنية» مع الكتائب والسرايا والأذرع المقاتلة للقوى الفلسطينية، باعتبارها «ميليشيات مسلحة خارجة على القانون»، بحسب ما تفرضه خطة خارطة الطريق، من التزامات وممارسات كانت سلطة رام الله المحتلة حريصة على تطبيقها. وهذا ماجاء في كلمة عباس في جلسة الحكومة يوم الاثنين 17/08/2009: «نحن طلاب سلام، نحن نقول الطريق الأساسي والوحيد هو طريق السلام والمفاوضات، ليس لدينا أي طريق آخر ولا نريد أن نستعمل أي طريق، نريد سلاماً مبنياً على العدل والشرعية الدولية من خلال طاولة المفاوضات ومن خلال القوانين الدولية ومن أسسها خطة خارطة الطريق».
إن تأكيد المؤتمر مجدداً على المضي بخيار المفاوضات بعد كل هذه السنوات العجاف، التي لم تحمل للشعب والأرض، سوى المزيد من الكوارث، يعني الاستسلام لخطة العمل التي ترسمها حكومة العدو الصهيونية. ولهذا فإن أي حديث عن النضال من أجل حق شعبنا بالحياة الكريمة لايستقيم مع أسلوب المفاوضات، وأشكال المقاومة الشعبية في «بلعين ونعلين» فقط، لأن مواجهة الممارسات العدوانية ضد الإنسان الفلسطيني وأرضه، تتطلب أسلوباً أكثر فعالية، يكون قادراً على الرد على المذابح بعمليات نوعية مسلحة. أما الحديث عن التمسك بحق العودة، فقد جاء في سياق المهمات القادمة، علماً بأن موقف عباس وعدد من اعضاء قيادته الجديدة، معروف لأبناء شعبنا. لأن الحديث الدائم عن «حل عادل متفق عليه؟!» من قضية اللاجئين، مرتبط عندهم، بالحدود والتوافقات التي وضعتها وثيقتا «بيلين/ أبو مازن» و«بيلين/عبد ربه» الكارثيتان.
من جانب آخر، أظهرت النتائج انعدام أي تقييم جدي مارسه أعضاء المؤتمر لتجربة العقدين الماضيين، خاصة «اتفاق أوسلو وملحقاته، التحقيق في سبب وفاة أبو عمار، أساليب الكفاح الوطني، تجربة السلطة والانتخابات تحت الاحتلال في الضفة وغزة، وخاصة وصول حركة حماس للسلطة في القطاع، منظمة التحرير وهيئاتها وتمثيلها لقوى العمل السياسي والمجتمعي، دورأبناء شعبنا في فلسطين المحتلة عام 1948، وفي مناطق اللجوء والاغتراب في الحركة الوطنية الفلسطينية، الفساد والقطط السمان ...».
بانتهاء أعمال المؤتمر «المهرجان الانتخابي»، تكون فتح قد رسّمت وظيفتها ودورها، كحزب للسلطة، أكثر من كونها حركة تحرر وطنية لشعب مازال يرزح تحت الاحتلال على أرض فلسطين التاريخية. وهذا ماعبّر عنه «حسام خضر» عضو المؤتمر، وأحد قادة الحركة في الضفة الفلسطينية المحتلة قائلاً (فتح الجميلة انتهت وللأبد...) لأن (القيادة التنظيمية تركت الحركة مشاعاً تعبث فيه الوحوش التي نهشت لحم حركة فتح وشوهت صورتها)، مضيفاً (يعتصرني الألم بوصول البعض إلى اللجنة المركزية. ما كنا لننتخب هكذا قيادة لو كانت فتح بخير وبوضع تنظيمي صحي).
إذا كانت انتقادات بعض قادة وكوادر الحركة الذين شاركوا بالمؤتمر، قد بلغت هذه الدرجة من الخوف على دور حركتهم المستقبلي، فماذا بقي لعشرات القيادات ومئات الكوادر، الذين قاطعوا المؤتمر لعدم شرعيته، أن يقولوا ويفعلوا؟ المرحلة القادمة ستحمل لنا الإجابة.