إلى أين يمضي العراق المضرج بالدم؟

ما تزال الإدارة الأمريكية تؤكد بإصرار أنه لا توجد نذر حرب أهلية في العراق. مائة قتيل عراقي أو أكثر يسقطون كل يوم في شوارع جميع المدن العراقية برعاية ومباركة وأسلحة أمريكية، وهناك مساجد وحسينيات تفجر أو تحرق يومياً بمن فيها من المصلين، وهناك سيارات تفخخ وتنسف في الأزقة وعلى أبواب المنازل والإدارات الحكومية والمعامل والأسواق المكتظة، وهناك حكومة مدعومة بقوة من المحتلين متهمة، وهناك أدلة، بإنشاء فرق سرية للقتل المنظم. ومع هذا يصر المحتلون الأمريكيون الذين بذلوا وما يزالون يبذلون كل ما بوسعهم لدفع العراقيين إلى الاقتتال الأهلي، أنه لا يوجد أي خطر مباشر أو غير مباشر على السلم الأهلي العراقي..

المسؤولون العراقيون الجدد، لا يمكنهم بالمقابل إلا أن يذعنوا للخطاب الأمريكي في هذا الشأن، كما هو الحال طبعاً في بقية الشؤون، أي: لا يوجد أي خطر على وحدة العراق ولا على سلامة شعبه، والحياة الرغيدة آخذة بالتوسع والانتشار، وستطال قريباً كل شرائح وطبقات الشعب العراقي من أقصى شماله إلى أقصى جنوبه.. أما ما يجري يومياً من مذابح مريعة، فما هي إلا عثرات مؤقتة آخذة بالزوال، وسيتجاوزها العراقيون بمجرد أن يكفوا عن المقاومة المسلحة ضد الغزاة الأمريكيين الذين أتوا إلى العراق لتخليص (شعوبه) من الاستبداد والفقر والتخلف!!

هذه هي المسألة إذن، إيقاف القتل العشوائي الذي يمارسه رجال الميليشيات المسلحة أمريكياً والمدعومة والموجهة حكومياً مرهون بتوقف المقاومة العراقية البطلة عن قتل الأمريكان الغاصبين!!

إنها فعلاً معادلة صعبة ومفاضلة بغاية القسوة، ولكن ترى ألا يوجد هناك خيار ثالث أقل ثمناً وأكثر جدوى؟

إن المتتبع للتطورات التي حدثت في العراق منذ بداية الغزو الأمريكي له قبل ثلاثة أعوام، اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، يلاحظ أن الأهداف والغايات الأمريكية كانت ولا تزال تصب في اتجاه واحد، وهو إلهاء العراقيين في شؤون خلافية عرقية، دينية، مذهبية، سياسية – اقتصادية، ليتسنى لهم، أي الأمريكان، الظفر بأكبر قدر من المكاسب الاستراتيجية: النفطية والسياسية بأقل قدر من الخسائر المادية أو البشرية، وهم إلى هذه اللحظة لم يتمكنوا عملياً وعملياتياً من تحقيق شيء من هذه الغايات والأهداف، وبالتالي فإن هذا الاستعصاء ذا التكلفة الكبيرة لا يمكن لهم تحمله آجالاً طويلة، وقد يشكل بداية انهيارهم النهائي فيما لو ظل قائماً أو أخذ بالتوسع والازدياد، وهنا يأتي الخيار الأمثل بالنسبة لجميع العراقيين الشرفاء والأكثر جدوى على المديين القريب والمتوسط، وهو الصمود وعدم الانجرار إلى حرب أهلية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، بات ضرورياً تشكيل قوى وطنية جامعة لاطائفية تجاهر برفضها للاحتلال وتعمل وفق خطط منهجية لتقوية السلم الأهلي ومحاصرة الميليشيات المشبوهة، وهذا ليس بالأمر المستحيل إذا توفرت الإرادة الصلبة والنية الصادقة ونكران الذات..

إن تجارب المقاومات الوطنية في كل أنحاء العالم عبر العصور، وخاصة في العصر الحديث، تؤكد جميعها أن نفس المقاومة وجلدها أكبر بما لا يقاس من إمكانيات المستعمرين المادية والبشرية مهما كانت كبيرة، لذلك فإن كل الاستكبار الأمريكي وعنجهيته لن يستطيع، مثله مثل غيره من الأمثلة التاريخية، أن يهزم إرادة المقاومة، بشرط أن تبقى هذه المقاومة مدعومة شعبياً من جميع مكونات الأمة التي تنتمي لها.