ثلاثة رسائل كتبتها راشيل كوري
في مثل هذه الأيام الحائرة ما بين الشتاء والصيف، وتحديداً في الخامس عشر من آذار قبل سنتين، كانت راشيل كوري ابنة الثالثة والعشرين ربيعاً القادمة كالمستحيل من واشنطن، تلك الفتاة الأجمل من زهر الحنون، الأرق من نسمات الربيع النيسانية، الأنقى من بياض زهر نرجس جبلية فلسطينية، كانت راشيل هنا بيننا، وكنا نحتفي بها وتحتفي بنا، كل على طريقته الخاصة، وربما كنا نتبادل الأدوار، فنحتفي بها بالطريقة الكلاسيكية الأمريكية، وتحتفي بنا على الطريقة الشعبية الفلسطينية.
كانت راشيل بيننا جزء منا، وكنا كل قلب راشيل.. تلك الإنسانة التي تعلمنا معها قيمة الإنسان والإنسانية، وتعلمت معنا مذاق الصمود المجنون في المدن المحاصرة...
راشيل كوري صديقة العصافير والفراشات.. جاءت من وراء المحيط في زمن منحط يذهب فيه الناس وراء المحيط حيث الجنة في عقولهم هناك ... كانت راشيل تبحث عن جنتها في وسط الأزقة المعتمة، والتفاصيل الممنوعة، كانت راشيل تبحث عنا وعنها في غزة ... حيث المخيمات والأطفال وبيوت الزنك والصفيح.. حيث الدمار والرماد.. حيث الدبابات والبلدوزارات.. جاءت راشيل حيث مزج هدير الأمواج مع صوت المدافع والقذائف..
هناك في رفح .. في حي السلام .. آه يا حي السلام ... أي سلام وأي كلام هذا الذي يمكن أن يبقى في ظل هذا العصر الصهيوني الجبان..
جاءت الجرافات والدبابات لهدم البيوت .. فتصدت لها راشيل بخصرها النحيل .. وجسدها الطري كعضن سنديان.
فتاة تحمل براءة السنونو في عينيها.. تتقدم بتحدي باتجاه آلة للموت، آلة لا تحسن إلا صنع الموت بأسرع وقت ممكن، آلة مخصصة لسحق العشب الأخضر الطري، وقتل الأمل، وراشيل.
مشهد للموت أكثر من درامي، راشيل تتقدم، و الوحش الحديد المسمى جرافة يتقدم أكثر وأكثر.. وتراجع الجميع سوى راشيل..
بإصرار لم يعرفه إلا فرسان العصور الوسطى، وعصور صدر المعارك الكبرى تقدمت راشيل لتحمي شجيرات النخل في رفح، أصرت إلا أن تحمي البيت والشجر .. وان تحمي أعشاش العصافير من الموت .. تقف وصورتها تطبع في عيني قاتل يقود آلة موت تتقدم باتجاهها... ومن ثم مضت راشيل عنا خلف بحرها القرمزي.. خلف المكان الذي لا نعلمه.
مضت راشيل مع الأزهار المزركشة الزاهية التي داستها جنازير الدبابات الكبرى، المُهدات من الدول الكبرى... والتي ربما تكون قد صُنعت في بلدها..
رحلت راشيل العصافير، وماتت معها العصافير، وتعانقت دمائها والزهور مع التراب .. وحلقت روحها عاليا ... عالياً جداً حيث لا ندرك أيضاً ... حيث يمضي الشهداء دوماً دون موعدٍ، وحيث لا يصطف العائدون من المعركة، وقلبت راشيل الفتاة اليانعة موازين الدولة الدخيلة العظمى. وأضافت راشيل اسمها لقائمة الشرف النسائي الفلسطيني مرة أخرى.
راشيل كتبت على صخرات رفح ثلاثة رسائل عصية على النسيان.
سجلت في الرسالة الأولى اسمها وأسم من سبقنها في ذات المعركة على ذات الأرض.
وفي الرسالة الثانية سجلت وصيتها لشعب حائر، يظن أن القيمة الديمقراطية لا يمكن أن تتحقق إلا في دولة غربية.
وكتبت وصيتها الثالثة لرجال الشرق العاجز، بأنها امرأة تعلمت كيف تدافع من نساء هذا الشرق أيضاً، لكن الشرق سلب وصاياهن.
رحلت راشيل دون رسالة وداع لنا، لأنها تعلم أنها ستعود مرة أخرى، فربما قالت إلى اللقاء قبل أن تمضي، وربما ربتت على أوراق زهرة، أو قبّلت عنوة ملامح طير في السماء.
كل ما نعرفه أن راشيل كانت بيننا قبل سنتين ومضت، وما نعلمه أيضاً أنها ستعود مرة أخرى لهذه المروج، وستقيم احتفالية أخرى للنرجس، وتُزوج مع درويش الليلك، وترقص معنا الميجنا.
لراشيل التي تمضي كل الزهور التي سيهديها الرجال للنساء في يوم المرأة التي لم يكن مصادفة بأن يأتي قبل رحيلها بأسبوع، فهي ربما اختارت هذا الموعد بقصد، بأن يكون المنتصف بين يوم المرأة وعيد الأم، لتحمل منتصف الزهور من الاثنين، ولتستطيع أن تتقبل الزهور من الرجال القادمين من سفوح الجبال يحملون النرجس البري يهنئون نسائهم بيومهن، وحتى تتقبل الزهور التي سيأتي بها الأبناء والبنات لأمهاتهم في عيد الأم.
كانت راشيل عروس نساء فلسطين في يوم المرأة، وكانت أم في عيدها من قبل أن تكون أم.
راشيل كوري ... من كل نساء فلسطين ... ومن كل أمهاتها ... لك الخلود ولنا طول الشقاء.