أي عولمة بديلة؟

لدى الصيغة الحالية للعولمة القليل مما تقدمه للأغلبية الكبرى من شعوب الجنوب: هي مربحة لأقلية من الناس، وتطلب بالمقابل إفقار الآخرين، وبوجه خاص المجتمعات الفلاحية، التي تضم تقريباً نصف الإنسانية، وعلى المستوى العام، منطق الربح يقود إلى التدمير التدريجي للأسس الطبيعية لإعادة إنتاج الحياة على الكوكب. وبخصخصة الخدمات العامة يقلص أيضاً الحقوق الاجتماعية للطبقات الشعبية. وبالنظر لهذا الواقع فإن الرأسمالية، التي تؤلف العولمة التعبير المعاصر لها يجب أن تعتبر نظاماً لاغياً.

لكن أغلبية الحركات التي تحارب آثارها يتقلص لديها أكثر فأكثر التشكيك بمبادئها الأساسية، الأمر الذي يحد من قدرتها على طرح حلول بديلة، هي في نفس الوقت ضرورية وممكنة. هذه يجب أن تربط، لا أن تفصل، دمقرطة الإدارة لجميع جوانب الحياة ـ السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، البيئية، العائلية بالتقدم الذي يفيد منه جميع المواطنين، بدءاً من الأشد بؤساً. والحلول البديلة هذه يجب أن تتضمن أيضاً احترام سيادة الدول والأمم والشعوب، وبناء نظام دولي متعدد الأقطاب، لجعل الالتزام بالتفاوض يحل محل سيطرة القوة.

بدائل خدمة الرأسمالية

وفي هذا المنظور يجب طرح إنشاء مؤسسات دولية غير القائمة حالياًَ، والتي هي على الأغلب فقط في خدمة الرأسمال المالي: منظمة التجارة العالمية (م ت ع)، صندوق النقد الدولي (ص ن د)، البنك الدولي، منظمة حلف الأطلسي (الناتو) وحتى الاتحاد الأوربي الذي يعمل حالياً. هذا دون الحديث عن المشاريع الإقليمية، مثل منطقة التجارة الحرة في الأمريكيتين (ELR،ALCR  بالإسبانية) والاتفاقات بين الاتحاد الأوربي وبلدان RCP (أفريقيا، الكاريبي، الهندي).
والوقوف ضد ذلك لا معنى له، إلا إذا كان يستهدف في نفس الوقت طموح الولايات المتحدة المدعوم من حلفائها ببناء هيمنة عسكرية على مجموع الكوكب. وفي هذا المجال يبدو الشرق الأوسط وكأنه منطقة «الضربة الأولى» الأمريكية، وذلك لأسباب أربعة:

• يضم الموارد البترولية الأغزر في العالم، والسيطرة عليه توفر لواشنطن وضعاً مميزاً، وتضع أيضاً حلفاءها (أوربا واليابان) وأيضاً منافسيها المحتملين (الصين) في وضع غير مريح في الحاجة للطاقة.
• يقع في وسط العالم القديم ويسهل ممارسة التهديد العسكري ضد الصين والهند وروسيا.
•  يعيش فترة ضعف وتشويش، تسمح للمعتدي أن يضمن انتصاراً سهلاً، على الأقل حالياً.
• لدى الولايات المتحدة فيه حليف مضمون، إسرائيل، يملك سلاحاً نووياً.
وتفعيل هذا المشروع هو متقدم: ففلسطين والعراق وأفغانستان محتلة، وسورية وإيران مهددتان بعد لبنان. لكن عدا العراق وأفغانستان، حيث فشل ذلك الطموح واضحاً، فإن إفلاسه جلي أيضاً في غيرهما: مثلاً، في لبنان مقاومة حزب الله أربكت الجيش الإسرائيلي، رغم أنه مدرب، ومجهز تجهيزاً عالياً بفضل الجسر الجوي المقام بدءاً من القاعدة الأمريكية «دييغو غارسيا» في المحيط الهندي. كل جهود الولايات المتحدة وأوربا تهدف إذن إلى نزع سلاح المقاومة هذه، حزب الله اللبناني، من أجل إتاحة غزو ما جديد تقوم به إسرائيل ويؤدي إلى انتصار سهل.

نزع الأسلحة النووية

في هذا الإطار أيضاً يجب الانتهاء من الدعوة النفاقية لإيران فقط بالتقيد بعدم انتشار الأسلحة النووية. إن نزع الأسلحة النووية الضروري يجب أن يطبق على الجميع، بدءاً من البلدان العالية التجهيز، وفي المقدمة الولايات المتحدة وروسيا، دون نسيان الهند وباكستان، وكوريا الشمالية وإسرائيل (غير الموقعين على المعاهدة).
وفي هذا الخصوص المتفجر،  في الوقت الذي يعقد فيه من 20 إلى 25 كانون الثاني في نيروبي (كينيا) المنتدى الاجتماعي العالمي، ليست مع ذلك راديكالية المعارك هي الخيار المتبنى لدى العديد من الحركات الاجتماعية. هذا باسم الواقعية الضرورية والحرص على عدم الانعزال في محراب اليسار المتطرف. في نفس الوقت، من جديد ثمة أقليات صغيرة جذرية تغامر بإعلان نفسها «طليعة»، وترفض كل نقد، وتغلق أعينها عن التحولات السريعة التي تنال المجتمعات المعاصرة.
بعدما تبين فشل الموجة التاريخية الأولى من التجارب، التي قامت باسم «الاشتراكية»، بدت الرأسمالية بالنسبة للكثيرين، وبالضرورة، أفقاً لا محيد عنه. الحركات الشعبية اكتفت غالباً، والحالة هذه، بإعطاء معاركها أهدافاً معتدلة: حتماً جعل الليبرالية تتراجع، ولكن فقط من أجل مجيء بدائل تنتمي إلى إدارة رأسمالية «ذات وجه إنساني».

النظام الدولي الفاقد لدوره

عدد من المناضلين، ولا سيما في أوربا والولايات المتحدة، لم يعودوا يعتقدون أن المعارك يمكن وضعها ضمن نظام الأمم، النظام الذي فقد في رأيهم كل دور. وباعتبار الأمة والدولة لا يمكن إلى حد بعيد فصلهما عن بعض، فإنهم يضعون استراتيجيات تتجاهل عمداً سلطة الدولة، ويبدلونها بالمعركة ضمن «المجتمع المدني»، وبمهاجمة «سياسة الأحزاب». هذا الموقف منتشر بوجه خاص في القارة العجوز، حيث الكثيرون يضعون أولوية لأنفسهم هي «إنقاذ أوربا»، كما لو أن أوربا يمكن أن تكون ولو على المدى المتوسط شيئاً آخر غير ما هي إياه.
تجاه تلك التحديات، العولمة البديلة، أي مشروع بناء «عالم ثان ممكن» ينحدر إلى الجمع. ثمة عولمة بديلة يمكن وصفها بـ«الرخوة» التي توحي باتخاذ مواقف، يمكن أن توجد في نفس الوقت في مجتمعات غنية (نوع من «البيئية الجذرية») وفي مجتمعات فقيرة معدمة (مع أصولياتها الدينية أو العنصرية). إن عولمة بديلة تقدمية لا تستطيع أن تنتهج نفس الطريق. حتى ولو توجب عليها أن تقوم بالانتقاد الضروري لحدود التجارب اليسارية المعاصرة.

الجذور الحقيقية للعولمة البديلة

بين الاثنتين تأتي عولمة بديلة، أنصارها موجودون في الطبقات الوسطى في البلدان الغنية، وهم ينتقدون أسلوب العيش، الذي تطرحه الرأسمالية، ويحنون أحياناً إلى الماضي البعيد، ولكنهم ضعيفو الاهتمام بالهموم الواقعية للطبقات الشعبية، التي في بلدانهم، وأيضاً التي في الجنوب، حيث عولمتهم البديلة «المعتدلة» هي غالباً غير مفهومة. لكن وللمفارقة، وليس هذا إلا بسبب توفر الوسائل المالية لديهم، يبدو أنهم واسعو الحضور داخل المنتديات الاجتماعية العالمية أو الإقليمية، ويؤلفون أحياناً كوابحا أمام تصاعد المعارك الشعبية.
رغم تلك الفروق، التي تؤلف في النهاية إحدى الثروات الكبرى لمجرة العولمة البديلة، وفي مواجهة الخطر الرئيسي الذي يتمثل في احتمال حروب جديدة وقائية تشنها الولايات المتحدة، كل العولمات البديلة من الأشد جذرية حتى الأشد اعتدالاً يجب أن توحد جهودها. تلك هي الوسيلة الوحيدة لنبني في النهاية عالم ثان، كل امرئ ينادي به على هواه.

■ سمير أمين (رئيس المنبر العالمي للبدائل)
 ترجمها عن الفرنسية: محمد الجندي