«» الجلبي «» عبد الله!
بداية لابد من التنويه إلى فكرة أساسية تنطلق منها هذه المادة وهي التمييز بين الدين والفكر الديني، فالدين كعلاقة بين الخالق والإنسان باعتباره أحد أنماط الوعي البشري لذاته وللكون شيء، - والفكر الديني كونه اجتهادا بشريا لفهم الرسالات السماوية وآليات تطبيقها على الواقع شيء آخر تتحكم به المصالح المختلفة والمستوى المعرفي والمشاعر والأحاسيس، وعلى كافة الصراعات الدائرة اليوم في المنطقة يدخل الفكر الديني، وخاصة الإسلامي وعلى وجه التحديد المذهبية السياسية في سياقات الصراع محصنا نفسه بالمقدس الديني، وذلك من خلال مؤدلجي الصراع المذهبي (سنة، وشيعة) ليأتي دور كراكوزات الإعلام المرئي، والمقروء والمسموع في إضفاء الإثارة على المشهد، ومع دخول بيزنس العصبية الطائفية على الخط كمحاولة لتأطير التخندق في القاع الاجتماعي يتجلى الصراع الدائر وكأنه صراع سني – شيعي، وخصوصا بعد عرض الفيلم الهوليودي عن إعدام الرئيس العراقي السابق صدام حسين الذي أضاف جرعات جديدة إلى الشحن المذهبي المصطنع أصلا بطريقة إخراجه، ووممثليه، ونقّّّاده .
إن المتابع للمشهد العراقي الراهن يعرف أن أوّل من نفخ في جمر المذهبية، وروّج لها منذ بدء الحرب الأمريكية على العراق هو (آية الله) أحمد الجلبي الغني عن التعريف، وإن نخوته المذهبية الطارئة ظهرت مع بدء احتلال العراق عندما أطلق نظريته ( ترتيب البيت الشيعي) وكأنه ناسك متعبد لم يغادر الحسينيات في حياته.. أما الوجه الآخر من عملة المذهبية السياسية الزائفة فكان (شيخنا الجليل) الملك عبدالله الأردني عندما أتحفنا باكتشافه التاريخي عن خطر(الهلال الشيعي)....
اللافت في الأمر أنه كلما تخبط المشروع الأمريكي في المنطقة ازداد زعيق أبواق المذهبية السياسية من هنا وهناك، والمثير أن أغلب من ينفخ في هذا البوق إما أنظمة فاسدة مستبدة أو من بطانتها، أو قوى سياسية واجتماعية منبوذة ومستهلكة تفتعل هذه الخلافات لخلق استقطاب جماهيري حولها باستخدام الأيديولوجيا الطائفية، في حين أن الجامع بين هؤلاء وأولئك الرقص على إيقاع الديمقراطية الأمريكية التي تنتشر مع ذرات اليورانيوم المنضب من خلال مشروع الشرق الأوسط الجديد .
انطلاقا من ذلك يمكننا القول إن الحديث عن صراع شيعي سني هو ضرب من الديماغوجيا والنفاق الرخيص المرافق لمشروع الهيمنة الأمريكية الذي يتم تسويقه في الوعي الجماهيري بقوة الضخ الإعلامي الهائل، والصراع إذا كان موجودا هو صراع مفتعل بين خدم الاحتلال من السنة والشيعة في إطار سياسة الاحتواء المزدوج التي تعمل بها الادارة الأمريكية والتي تسوقها الفضلات المذهبية هنا وهناك ليجد كل منهم موقعا له على مائدة الشرق الأوسط الجديد عبر ضرب الكل بالكل تطبيقا لمبدأ الفوضى الخلاقة من خلال زج الجماهير البسيطة في معارك وهمية مستغلة فقرها وكبتها الناتج عن سياسات الأنظمة، وذلك لتغييب الصراع الأساسي في المنطقة من حيث كونه صراعا بين المشروع الأمريكي الصهيوني وأنظمة فاسدة مستبدة من جهة، وبين هذه الجماهير العريضة وقواها الوطنية الديمقراطية من جهة أخرى التي تسعى للانعتاق من كابوس الأنظمة والاحتلال معاً.
إن التصنيف الواقعي والذي يتبلور يوما بعد يوم رغم كل الضجيج الإعلامي هو ليس تصنيف سني وشيعي، بل مقاومون ومساومون، وبالتالي فإن الواقع سيفرز في الحقل السياسي مذهبين جديدين هو المذهب المقاوم ومذهب الخدم، تاركاً الاجتهادات المختلفة حول هذه القضية أو تلك في الدين الحنيف شأنا دينياً تحسمه قوة الحجة وسلامة المنطق. وكل توظيف للمذهبية الدينية في المشهد السياسي الراهن باتجاه ضرب الوحدة المجتمعية، وافتعال صراعات وهمية، وذرف دموع التماسيح على الشيعة كما يفعل الجلبي، أو على السنة كما يفعل الملك عبدالله، هدفه خدمة المشروع الأمريكي المتعثر بقوة المقاومة الشعبية، وخدمة لبقاء أنظمة مهترئة بعد أن فعلت ما فعلت بشعوبها وبلدانها..