«الإنجيل» حسب «وول ستريت»
يذكر سلوك المصارف براقصي الفنون الشعبية في منطقة البلقان الذين ينظرون وجهاً لوجه ويصفقون بعضهم للبعض الآخر ثم يديرون ظهورهم ليرقصوا وهكذا دواليك. فالمصارف تقرض أموالاً تتجاوز ما تملكه، لدائنين سيعجزون عن سدادها، مدركة تمام الإدراك أنه سيتم إنقاذها من أموال الشعوب لمنع إفلاسها واندلاع الفوضى الاقتصادية، وهلم جرا.
لا يعلم أحد إلى متى سوف تستمر هذه الرقصة المصرفية. ما هو مؤكد هو أن أزمة أوروبا ليست في أثينا ولكن في بروكسل. فقد وافقت حكومات منطقة اليورو في حينه على انضمام اليونان للعملة الموحدة، من دون مراعاة الضوابط اللازمة وعلى الرغم من الشكوك القائمة من أن بياناتها كانت كاذبة وأن عجزها يتجاوز بكثير مما تعلن عنه.
الآن وقد خرجت الحقيقة إلى وضح النهار، تجد أوربا نفسها أمام أحد خيارين، إما القبول بأن اليونان قد أفلست ومحاسبة كافة الأطراف التي سهلت ديونها الضخمة، بما في ذلك المصارف الأوربية والأمريكية، أو تحميل الأعباء على أكتاف الدول الأخرى الأعضاء في الاتحاد الأوربي.
أيا كان الأمر، فالواقع هو أن الدول تقدم قروضاً ضخمة لليونان لمواصلة العيش يوما بيوم، مع العلم أنها ستعجز عن سدادها. ولا غرو، لأنه عبر إجراء المزيد من الخفض على الإنفاق الاجتماعي، ينخفض الدخل وتنخفض العمالة، ومن ثم الضرائب أيضاً، ليبقى العجز قائماً نتيجة لكل ذلك.
ولكن مهما حدث، لا أحد يجرؤ على المساس بالمصارف، بل يجري فعل كل ما هو ممكن لاحتواء العجز المالي والحفاظ على سندات الديون وتفادي الهبوط في تصنيف الوكالات (موديز وستاندرد اند بورز وفيتش)، تلك ذاتها التي شدت ساعد وول ستريت قبل الكارثة المالية لعام 2008.
والآن يجري مواجهة العجز المالي بزيادة العجز الاجتماعي، وفصل عشرات الآلاف من العاملين، وتقليص الخدمات الصحية والتعليمية وكافة مهام الدولة التي تعتبر الموضة الحالية أنها من اختصاص القطاع الخاص.
لكنه يكفي مجرد الإطلاع على بعض البيانات الأخيرة للتشكيك في أخلاقيات القطاع الخاص.
فقد فحصت شركة الأبحاث المستقلة في بالتيمور RG Associates وضع 500 شركة تترأس قائمة ستاندرد آند بورز، ووجدت أن رواتب مديريها ارتفعت في عام 2010 بنسبة 13.9%، بإجمالي 14.300 مليون دولار أو ما يعادل الناتج المحلي الإجمالي لدولة طاجيكستان التي تأوي أكثر من سبعة ملايين نسمة.
و في حين انخفضت القيمة السوقية لمجموع 179 من هذه الشركات بين عامي 2008 و 2010، تلقى المسؤولون التنفيذيون فيها زيادات كبيرة في الدخل. وفي حالة شركة التأمين الكبرى Alleghran تلقى المسؤولون زيادة في صافي الأجور بقدر 2.6 مليون دولار في المتوسط، أي ما يعادل 50% من أرباح الشركة.
كما دفعت العديد من الشركات لكبار المسؤولين فيها مبالغ تتجاوز ما تقضي به الأسواق.
ثم هناك حقيقة أخرى لا يجري الحديث عنها، ألا وهي أرباح الشركات الأمريكية التي لا تحولها إلى الولايات المتحدة تفادياً لدفع الضرائب، والتي تقدر بنحو 1.5 مليار دولار، في حين تود هذه الشركات دفع مجرد ضريبة 5.25% بدلاً من 25% في حالة نقل مكاسبها الجبارة إلى الولايات المتحدة. وثمة من يقول إن من شأن ذلك توفير 50.000 مليون دولار على شكل عائدات ضريبية كفيلة بخلق فرص عمل كثيرة قدرتها جماعات الضغط بنحو 400.000 وظيفة جديدة.
لكن الكثيرين ينسون أن الإعفاء الضريبي الذي أصدره الرئيس جورج دبليو بوش في عام 2005، أدى إلى عودة 312.000 مليون دولار إلى الولايات المتحدة، تم توزيع 92% منها بين المساهمين ولم يستثمر سوى القدر القليل الضئيل منها أو لم يستثمر على الإطلاق.
والأسوأ من ذلك هو أن أكبر 15 شركة استخدمت هذه الإيرادات لتسريح العاملين وإغلاق المصانع، وإجراء عمليات خارجية جديدة في انتظار عفو ضريبي آخر. وإليك حالة الشركة العملاقة في الصناعة الصيدلانية «ميرك» التي أعادت 15.900 مليون دولار إلى الولايات المتحدة، خصصتها لإغلاق المصانع وفصل 7000 عامل ونقل أنشطتها الإنتاجية خارج الولايات المتحدة.
يمكن لأي مراقب أن يشهد أن الولايات المتحدة تمر بأزمة مالية خطيرة، وأن كل من الكونغرس والبيت الأبيض في حالة شلل ويفشلان في تقديم الحلول للأزمة.
والخلاصة هي أن الأخلاقية وفقا لوول ستريت، هي الفضيلة التي تضع منفعة الشركات فوق كل القيم الأخرى.
• المؤسس والرئيس الفخري لوكالة (آي بي إس)