رسالة مصر/ إبراهيم البدراوي رسالة مصر/ إبراهيم البدراوي

اللقـــاء...

تداولت أجهزة الإعلام خبر اللقاء بين زعيم الأغلبية الديمقراطية في مجلس النواب الأمريكي مع أحد القيادات البارزة لجماعة الإخوان المسلمين الذي سارع إلى الإعلان عن أن اللقاء كان في اطار مجلس الشعب بحضور رئيس المجلس وعدد كبير من النواب وأن اللقاء الآخر الذى تم في منزل السفير الأمريكي كان بحضور عدد من السياسيين الحكوميين وغيرهم ونفى حدوث أي لقاء منفرد مع المسؤول الأمريكي.

دلالات هامة يحملها هذا الموضوع، لذا يتطلب الأمر إطلالة قصيرة على الماضي ليصبح المشهد الراهن واضحاً.

تاريخياً كانت مواقف الإخوان متناقضة ومتقلبة.

قبل يوليو 1952 كان التقارب مع القصر الملكي ومع أحزاب الأقلية الموالية للقصر وللاحتلال البريطاني، في حين كان عداؤهم شديداً لحزب الوفد وهو حزب الأغلبية الشعبية آنذاك، رغم أنه كان يعاملهم برفق.

مع ثورة يوليو 1952 أيدوا السلطة الجديدة في موضوع حل الأحزاب، وحينما أصبحت الساحة شبه خالية حاولوا احتواء السلطة التي لم تكن تملك حزبا.

لم تواجههم حكومات ما قبل يوليو 1952 الا بعد لجوئهم للعنف والاغتيالات التي امتدت إلى رؤساء وزارات ووزراء، وكانت قوتهم تزداد، ولم يصبهم الضعف إلا بعد محاولة اغتيال الرئيس جمال عبد الناصر عام 1954 بعد فشلهم في احتواء وركوب السلطة الجديدة. وتمت المواجهة على خلفية بواكير الاجراءات الاجتماعية للثورة أي قانون الاصلاح الزراعي الأول وما صاحبه من تأييد جماهيري للثورة، ثم ازدادوا ضعفا مع تصاعد وتيرة الإجراءات الاجتماعية والتنمية والتبلور الكامل لمشروع جمال عبد الناصر الوطني والقومي وكانوا في موقف المعارض تماماً للمشروع، أي أن الضربات الأمنية لم تكن كافية وحدها لإضعافهم ولكن المشروع الوطني هو السبب في ذلك.

بعد انقلاب مايو 1971 اليميني، تحالف معهم السادات ونال تأييدهم الكامل وسمح لهم بحرية حركة واسعة، وكانوا أداته الرئيسية في مواجهة اليسار من شيوعيين وناصريين، وفي تمرير سياساته الاقتصادية والاجتماعية والخارجية التي قوضت الكثير من منجزات جمال عبد الناصر.

وكانت ذروة توحدهم مع سلطة السادات مصاحبة للانتفاضة الشعبية (يناير1977).

مع زيارة العار التي قام بها السادات للكيان الصهيوني، ثم الصلح المشين معه، كان موقفهم هو الصمت. وتحمل الشيوعيون والناصريون والوفديون وشخصيات وطنية عبء مواجهة السادات، وحينما علت موجة الرفض لهذا الصلح انضم الاخوان إلى القوى الوطنية بعد أن تآكلت شعبية السادات، فشملتهم الضربة التي وجهها لكل القوى والتيارات السياسية المعارضة للصلح، وذلك في سبتمبر 1981، وتم اغتياله بعد شهر واحد.

بدأت سلطة مبارك في العمل على تهدئة الاحتقان السياسي، وهو ما مكنها من السير ببرنامج الردة وتنفيذه بدرجة تفوق أحلام السادات، مما أوصل البلاد إلى الأزمة الشاملة الراهنة وسيطرة الطبقة الرأسمالية التابعة. وبدأت في الوقت نفسه عملية ترويض للمعارضة تخللتها تجاذبات متقطعة، والأهم مقايضات. كما كانت تتم تحالفات وعمليات تنسيق بين المعارضة لم تستطع الصمود طويلاً، إلى أن برزت فجأة بواسطة اليسار الضالع في تلقي التمويل الإمبريالي. وأبرز دعاة الليبرالية الجديدة فكرة عمل مشترك بين الأحزاب وجماعات حقوق الانسان حول نقطة واحدة هي (الديمقراطية والإصلاح السياسي وحقوق الإنسان) بعد إفراغ هذه الأهداف من جوهرها وإعادة تعبئتها بمضامين الأجندة الامبريالية الصهيونية وهو ما اعترضنا عليه بشدة، إذ أصبحت هذه القضية عملياً هي مجال العمل الرئيسي لليسار الإصلاحي.

ومع عمل السلطة في إتمام كنس المكتسبات والحقوق الاجتماعية للطبقات الشعبية، التي توجتها التعديلات الدستورية الأخيرة، وفي غمرة انشغال المعارضة خاصة اليسارية بأجندتها البائسة، وبالمساومات مع السلطة أملا في نصيب متواضع من كعكة الوطن وتحسين قليل في شروط انصياعها لسلطة الرأسمالية التابعة، عمل الإخوان المسلمون في بناء شبكات واسعة من المؤسسات الخدمية بعد انسحاب الحكومة من الدور الاجتماعي، خصوصا مع انهيار التعليم وانتشار الدروس الخصوصية، وتحول مجانية التعليم إلى أكذوبة، ومع الانتهاء الواقعي للعلاج المجاني وتحويل العلاج إلى سلعة باهظة الثمن، ومع التفاقم الشديد في البطالة والفقر، فقام الإخوان بنشر شبكة واسعة من مراكز الدروس الخصوصية بأسعار معقولة، ومستوصفات للعلاج بأجور رمزية، وجمعيات رعاية اليتامى..الخ. ولم يتم فضح نهج السلطة في تحويل الحقوق الاجتماعية إلى مجرد عمل خيري غير قادر على حل المشاكل، بل زاد اليسار الاصلاحي في ترويجه لدور المجتمع المدني بما أضاف للإخوان قوة ضخمة، كما رحبت السلطة طبعا بوجود من يعفيها من واجباتها. ولم يصبح الإخوان قوة جماهيرية كبيرة فقط ولكنهم نجحوا أيضا في أن يصبحوا قوة اقتصادية كبيرة خاصة في مجال التجارة والمال في مناخ مؤات من النهب والاستغلال الرأسمالي والتطفل والفساد.

لم يعلن الإخوان أبداً عن برنامج سياسي اكتفاءً بشعار (الإسلام هو الحل)، ولم ينحازوا أبدا للعدل الاجتماعي اكتفاءً بالدعاية للاحسان وللعمل الخيري. لقد أصبحوا جزءاً من الرأسمالية الكبيرة، وتجاوزوا وضعهم منذ أكثر من نصف قرن حينما كانوا جزءاً من البرجوازية الصغيرة.

المشهد السياسي الراهن يشير بوضوح إلى أن الإخوان المسلمين (وبصرف النظر عن منظماتهم القاعدية المخدوعين وغير الواعين) هم جزء من الطبقة الرأسمالية المهيمنة، ولكنهم خارج السلطة، وتراهم السلطة مجرد منافس لايمثل خطر على الطبقة.

أما الآخرون خصوصاً الإصلاحيون من الشيوعيين المرتدين والمتمولين والجماعات الليبرالية الأخرى، فإنهم جميعاً جماعات هامشية وظيفتها تحسين صورة الرأسمالية الحاكمة مقابل القليل من الفتات.

المشهد السياسي الراهن وبشكل محدد يشير إلى قطب رأسمالي تابع، أحد جناحيه هو الجناح الحاكم، الشمولي المستبد، الذي يعاني من عزلة جماهيرية ورفض شعبي واسع والجناح الآخر شمولي ومستبد يتستر بالدين، ويناطح من أجل السلطة، ويكتسب نتيجة لممارسات السلطة وسياساتها ونكاية فيها تأييدا شعبيا وقد عبر الإخوان عن قوتهم علناً في الأسابيع الماضية عن امتلاكهم القدرة على تسليح مائة ألف، واستعرضوا قوتهم بشكل ملموس في التظاهرة شبه العسكرية في جامعة الأزهر.

وفي حين أثبتت السلطة ضحالة الأسلوب الأمني في محاولة إضعاف الإخوان، فإن السلطة المأزومة لن تكون قادرة على الوفاء بالاستحقاقات التي تنتظرها الامبريالية.

ويتصاعد الصراع الطبقي (الإضرابات العمالية الواسعة والمتواصلة، والسخط الشعبي المتزايد الذى ينذر بالانفجار) وذلك ما يدفع باتجاه بزوغ القطب المواجه للرأسمالية التابعة بجناحيها (رغم صعوبة الولادة)، وبالتالي إعادة صياغة ميزان القوى باتجاه مصالح الطبقة العاملة وسائر الكادحين.

على هذه الخلفية جرى اللقاء الأمريكي- الإخواني.

اللافت للنظر أن الجماعة قد أعلنت بعد (اللقاء) عن عزمها خوض انتخابات مجلس الشورى لكن الأهم هو الاعلان أنها لن تخوضها تحت شعار (الإسلام هو الحل)، وهو الشعار الذي تمسكت به بقوة قبلاً.

ألا تشير هذه الأمور الي أن وراء الأكمة ما وراءها؟ وأن الأمريكيين الذين يلقون بكل بساطة بعملائهم في بالوعة القاذورات لدى أي منعطف قد يكونون قد بدؤوا التفكير جدياً في بديل لايشكل خطرا على المشروع الرأسمالي (لأنه جزء منه)، بل يشكل حماية له باستخدام الدين وسيلة قمع لاستمرار الاستغلال؟

لقد جربوا في تركيا، وكانت النتيجة ايجابية، فلم يغير حزب العدالة والتنمية– وهو الامتداد التركي للإخوان المسلمين- شيئاً في توجه تركيا الغربي، بل استمر في اللهاث وراء الانضمام إلى الاتحاد الأوربي، والاستمرار في عضوية الناتو، والأهم استمرار علاقاتها الخاصة والمتميزة مع الكيان الصهيوني، الخ. وهي تجربة تغري بالتكرار.

آخر تعديل على الأحد, 13 تشرين2/نوفمبر 2016 23:43