ميخائيل عوض: سنة على «حرب تموز المجيدة» والمقاومة أكثر قوة
ينشغل المجتمع الصهيوني، والإدارات الغربية، والإدارة الأمريكية، بالبحث عن مصادر قوة جديدة للكيان الصهيوني، وتنكب دور الدراسة، والمؤتمرات على البحث في آليات استعادة الكيان الصهيوني لقوة الردع التي فقدها وجرد منها في حرب تموز. استعجلت النخبة الحاكمة في الكيان الصهيوني تغيير وزير الدفاع، وأسقطت بيرتس لتأتي بباراك العسكري المحنك على حد توصيفه الصهيوني، علماً أن وقائع قيادته للحكومة الإسرائيلية خلال الفترة السابقة لم يكشف فيها عن قدرات عسكرية أو سياسية بارعة أو متقدمة وهو كان صاحب شعار وبرنامج الانسحاب من لبنان باتفاق أو بدونه خلال سنة، ومن أشرف على تنفيذ هزيمة إسرائيل في لبنان عام 2000" أي إفقادها واحدة من أهم عناصر قدرتها الردعية التي امتلكتها منذ تأسيسها حيث كان الاحتلال وفرضه، وفرض الشروط عبره واحدة من أهم عناصر الردع الإسرائيلية " دون قيد أو شرط ودون تفاوض بل هزيمة وانسحاب مذل تحت النار قالت الصحف الإسرائيلية حينها إن الجيش الإسرائيلي ينسحب وذيله بين أرجله.
على المنوال ذاته، وللأهداف نفسها، جرت عملية تغييرات درامية استثنائية في قيادات الفرق، والوحدات، وفي قيادة الأركان، واسقط دان حالوتس بفضيحة مجلجلة وبناء لتوصية مؤتمر ضباط الجيش الإسرائيلي، وأعيد اشكنازي إلى الخدمة بعكس التقليد الثابت في الكيان الصهيوني لتكليفه بمهمة رئيس أركان الجيش الإسرائيلي والهدف المعلن تأمين قيادة قادرة على استعادة قوة الردع.
استعجلت وكيفت عمليات تقييم الحرب، وأداء الجيش الإسرائيلي، ونفذت عشرات المناورات ذات الطابع النوعي، مناورات شملت كل أوجه الحياة في الكيان، ومناورات في شمال فلسطين على الحدود اللبنانية، ومناورات تكررت على جبهة الجولان، كما أعيدت هيكلة وحدات الجيش، وقياداتها، وربطها بعضها ببعض.
صدر تقرير فينوغراد، مجتزأً ومحذوفة منه فقرات كثيرة وبشكل ملخص، وحدد التقرير أوجه النقص والتقصير في الإدارة السياسية والعسكرية للحرب، متجاهلاً حقائق جمة كانت هي السبب الأساس وراء الهزيمة المنكرة التي أصيب بها الجيش وإسرائيل في حرب تموز العدوانية، وفي أولها أن قرار الحرب، وقرار الاستمرار في الحرب، وتطويرها، كان قراراً أمريكياً مفروضاً على القيادة الصهيونية ولحاجات أمريكية بحتة لم تؤخذ بعين الاعتبار المصالح والقدرات الحقيقة للجيش الإسرائيلي وقدرته على الاستمرار بالحرب وانجاز أهدافها، كما تجاهل التقرير الإضاءة على قدرات المقاومة على المستويات المختلفة في محاولة لعدم إعطائها حقها وحصر النقد في أداء الضباط، والجنود والوحدات، وافتقاد التنسيق بين الأركان والوحدات، والتردد في القيادة، والارتباك في أداء المهام، كما تجاهل التقرير المتغيرات في البيئة الإستراتيجية للصراع العربي الصهيوني.
بكل الأحوال تبدو إسرائيل ومعها حلفها العربي، والغربي مشغولة بالسعي لاستعادة قوة الردع التي كانت تمتلكها أو تتخيل أنها تمتلكها واستندت لها خلال نصف القرن المنصرم، وشكلت وهماً لدى العرب، وذريعة لدى حكامهم لتمرير تسويات تفريطية وتطويب العرب وأرضهم وثرواتهم وإرادتهم السياسية ومصالحهم الاجتماعية والاقتصادية للغرب وفوض بعضهم أمريكا بشأنه وبشأن الصراع العربي الصهيوني واعتمد قاعدة السادات أن أوراق اللعبة بنسبة 99% بيد أمريكا.
السؤال الأهم: هل تستطيع إسرائيل استعادة قوة الردع التي كانت تعتد بها؟ هل كانت لإسرائيل قوة ردع ذاتية مرهوبة حتى يصار إلى استعادتها؟ كيف وبأية شروط؟ وعبر أية طرق وأدوات.
في قراءة واقعية معاكسة لأحداث الصراع العربي الإسرائيلي، متحررة من وهم الهزيمة وروحها، ومن سيطرة عقل الإحباط واليأس الذي تحكم بغالبية العرب مواطنين وحكام يمكن الجزم بحقائق تعاكس ما كان سائداً من أفكار وتقييمات، في غالبها أسطورية مصنعة إعلامياً ونفسياً، لا تمت بصلة للحقائق والوقائع عدا عن أنها هيمنة فكرية وثقافية فرضتها إسرائيل وحلفاؤها وأدواتها العرب بقصد تصوير إسرائيل في الذهن العربي أنها قدر لا يقهر ولا يجوز مصارعته.
إسرائيل في حروبها جميعاً لم تنتصر، ففي حرب ال1947-48 لم تكن حربا بقدر ما كانت جهداً قادته الدول المنتدبة لفلسطين والعرب لتمرير صفقة إقامة الكيان وتشريعه كمنصة لخدمة المصالح لاستعمارية وحراستها، وتسهيل ذلك تحت النار، وفي حرب لم يكن فيها العرب أسياد أنفسهم، ولا كانت جيوشهم قادرة أو حرة، ثم في حرب 1956 هزمت إسرائيل، وفي معركة الكرامة 68 هزمت إسرائيل، وفي حرب الاستنزاف عجزت، وفي حرب 1973 هزمت هزيمة مزلزلة دفعت بأمريكا للمسارعة لدعمها بالقوة العسكرية المباشرة وبالدبابات والطائرات الأمريكية يقودها أمريكيون، ثم في اجتياح 1982 لبيروت هزمت وخرجت ذليلة، وكذلك هي تخرج من غزة، وهزمت في حرب تموز 2006، وتستنزف في الضفة وغزة، تعجز وتسعى جاهدة لتأمين حماية لحدودها عبر استعارة القوات الأطلسية و الدولية، في الشمال وإلى الجنوب حيث تسعى وتعمل على استقدام قوات أطلسية إلى غزة وحدود مصر كما فعلت في الجنوب اللبناني.
تلك حقائق، بيد أن نتائج الحروب التي هزمت فيها إسرائيل باستثناء حرب 1967 التي انتصرت فيها لأسباب طارئة، صرفت عربيا بإرادة أمريكية وإسرائيلية حروباً أهلية عربية عربية، أدت إلى إقعاد العرب عن الاستثمار في انتصاراتهم وتالياً في تحقيق بعض أو كل أماني وطموحات ومصالح العرب واستعادت أرضهم وحقوقهم التاريخية.
إسرائيل في لبنان وفي فلسطين وخلال الزمن المنصرم، فقدت كل عناصر قوتها الإستراتيجية والتكنيكية فجاءت نتائج حرب تموز بما هي حرب عالمية شارك فيها عرب ومسلمون وتشكل على وقعها حلف المعتدلين، وغير المغامرين، بمثابة هزيمة مجلجلة وفاضحة، فصار القول محقاً أنها فقدت آخر عناصر قوتها المفترضة، بخسارتها قدرة الردع خسارة مدوية انعكست زلزالاً في بينة الكيان وثقته بنفسه، وبجيشه، وبقيادته، وبحلفه العربي والعالمي.
إذاً حرب تموز، شكلت اللحظة النوعية الكاشفة عن سقوط أركان وعناصر قوة الكيان بمجموع عناصرها وهي بذلك استحقت التوصيف أن نتائجها إستراتيجية ونوعية وتاريخية.
وعليه كيف يمكن لإسرائيل استعادة قوة الردع، وهل تستطيع ذلك؟؟:
في واقع التجربة كانت قوة الردع الإسرائيلية تكمن في ضعف العرب، واستسلامهم، وفي عدم مبادرتهم، وعدم قدرتهم على اعتماد الخيارات الصحيحة في الصراع وأدواته، وفي اندفاعهم إلى احترابات أهلية لإخراج إسرائيل من أزماتها على اثر هزائمها، فقوة ردعها مثلاً في حرب تشرين 1973 أي قبل 24 سنة خلت لم تمنع الجيشين المصري والسوري من اقتحام الصعاب وتحرير الأرض، وتدمير قوة الجيش الإسرائيلي، ولولا الخيانة السياسية لما كانت قوة ردع لإسرائيل مذ ذاك الحين، فأين كانت تلك الأوهام عن قوة ردع، وفي حرب تموز أضيفت عناصر جديدة منها القدرة على استهداف العمق الإسرائيلي وجعل الحرب تدور هناك وبوسائل وصواريخ دون ما تمتلكه الجيوش العربية، وعبر قوة مقاومة لا يوازي عددها عدد لواء في أي من الجيوش، مما يكشف كم هي أكذوبة سمجة مقولة قوة الردع.
بكل الأحوال الوضع اليوم بات مختلفاً، فالعرب عبر الصمود والممانعة، ودعم المقاومة وعبر المقاومات نجحوا في حل مشكلات الماضي وتجاوزها، وكي تستعيد إسرائيل قوة الردع يفترض أن تعيد عقارب الساعة ثلاثين سنة إلى الوراء وان تلامس استعادتها في النفوس العربية، وفي موازين القوى العربية، وفي المتغيرات الإستراتيجية التي أصابت الصراع العربي الصهيوني وملحقاته، وهذا أمر في مكانة المستحيل التاريخي.
أما مقولة استعادة قوة الردع عبر تغييرات في بنية الجيش الصهيوني، وأدواته، واستراتيجياته، وقادته، فتلك ترهة لا تنطلي على خبير أو عاقل متابع.
كي تستعيد إسرائيل قوة الردع عليها أولا أن تستعيد قوة حلفائها وفي أولهم الحليف الأسطوري أمريكا، وذلك مستحيل بعد هزيمة أمريكا في العراق، وفي أفغانستان، فقد كانت غزوة أفغانستان والعراق واحدة من آخر أوراق إسرائيل لإبقاء حالها قوياً بالاستناد إلى توريط أمريكا وأوروبا وتلك صارت خلفنا بعد هزيمة حلف الغرب على يد مقاومات العرب والمسلمين وصمود دول الممانعة والثبات، وكي تستعيد قوة الردع عليها أن تعود لاحتلال بيروت، وغزة، وأن تستطيع عملياً الاحتفاظ بالاحتلال.
هل تكون استعادة قوة ردع عبر حرب جديدة، هذا حصرم رأيته في حلب على حد وصف الخبراء فأي حرب في المعطيات الإستراتيجية الجديدة ستعني بالضرورة ومهما كانت الخسائر البشرية والمادية في الجانبين إنهاء الكيان الصهيوني وإزالته عن الخريطة هذا ما تقوله الصحف وتقارير المخابرات الإسرائيلية وما تجزم به المجلات المتخصصة، والخبراء، فسورية أقوى بألف ضعف مما كانت عليه في حرب تشرين 73 والمقاومة اقوى بمائة ضعف مما كانت عليه في حرب حزيران 2006، وإيران أصبحت دولة نووية كاملة المواصفات، وهذه أيضاً إضافة نوعية تؤكد إسقاط أخر عناصر قوة الردع الإسرائيلية بتفردها امتلاك القنبلة والتكنولوجيا النووية.
لقد ولى زمن الترهيب، والتخويف، والإحباط، وتصوير الأمور على غير حقائقها.
لقد فقدت إسرائيل قدراتها وصلاحيتها، وصارت كلب حراسة أمريكياً فاقداً للقدرة بحسب عناوين الصحف الإسرائيلية، وتالياً لم يعد لها من متسع أو إمكانية أو شروط لاستعادة قوة الردع وما تقوم به في غزة، والمناورات التي تجريها ليست سوى محاولات إعلامية تهويلية لتعويم الجيش الإسرائيلي وترميم ثقة المجتمع المهزومة بقدرته على الاستمرار حيث تضرب في إسرائيل أزمة وجودية تجعل من أكثرية مواطني الكيان يشعرون بالخوف والرهبة ويبحثون عن ملاذ آمن غير فلسطين.
قد تغامر القيادة الإسرائيلية تحت ضغط مأزقها وعجزها وفضائحها وفضائح الإدارة الأمريكية إلى حرب لكنها لن تعيد قوة الردع، وقد يكون الأجدى أن تبادر إسرائيل وأمريكا وحلفها العربي إلى تسريع خطوات تسووية وتفاوضية تحت ضغط التهويل بالحرب لكنها أيضا لن تعيد قوة الردع لإسرائيل القوة الوهمية التي فقدتها على صخرة الصمود والمقاومات وما أنجزته، وقد تبخرت وإلى الأبد.