الوهم والخراب..
تصريحات على أعلى مستوى صدرت نهاية الأسبوع الماضي تناولت قضايا عديدة، من بينها تأكيد نهج وتوجه السلطة بالنسبة للسياسات الاقتصادية، وهو ما أركز عليه، جاء فيها أن (.....قدرات مصر الخلاقة على جذب الاستثمارات الأجنبية، وهذا معناه وظائف أكثر ومستوى معيشة أفضل للشباب... الهدف هو فتح آفاق جديدة للاستثمار بعيدا عن العمل الحكومي، فالحكومة مواردها محدودة ودخلها معروف، لكن الاستثمار الخارجي يزيد من مواردنا ويفتح أمامنا آفاقا أوسع. الخ...).
هذا معناه بكل وضوح هو الاعتماد بشكل كامل تقريبا على رأس المال الأجنبي. وذلك يعبر إذا ما افترضنا حسن النية عن فقدان أي بصيرة وجهل مطبق لا مثيل له. أما لو تناولناه بشكل واقعي بعيدا عن مجرد النوايا فهو يعبر عن إصرار لا يعرف الحدود على استكمال دمار هذا الوطن.
منذ أن انتقلت الرأسمالية إلى مرحلة الاحتكار أي الامبريالية كان تصدير رأس المال هو أحد أهم روافد النهب والهيمنة الامبريالية، تلك حقيقة معروفة لن أتوقف عندها. لكنه إزاء الوضع الراهن الملموس في بلادنا لابد من قدر من الإفاضة. فلقد صدر قانون استثمار المال العربي والأجنبي عام 1974 في إطار ما سمي الانفتاح الاقتصادي، وصاحبته موجة دعائية عارمة عن الازدهار الاقتصادي القادم نتيجة قدوم التكنولوجيا الحديثة. وتم الشروع في توجيه أغلب الاستثمارات الحكومية أساسا إلى مشاريع البنية الأساسية مع الترويج بأن الهدف هو تهيئة المناخ للاستثمارات الأجنبية والعربية التي سوف تهطل على مصر كالمطر. وتقدر الحكومة أنه تم إنفاق ما يزيد كثيرا على 100 مليار جنيه على البنية الاقتصادية في عهد مبارك، أي خلال 26 عاما. مع العلم بأنه تم تعويم الجنيه المصري منذ حوالي خمس سنوات بما افقده أكثر من 40% من قيمته. أي أن الإنفاق على البنية الأساسية يتجاوز حسب قيمة الجنيه المصري الآن هذا الرقم المعلن عنه بكثير.
لكن الغريب والمريب أن هذه الأموال الهائلة الموجهة إلى البنية الأساسية قد ضلت طريقها بعيدا عن الفقراء خصوصا في مجالات أساسية مثل مياه الشرب التي أعلن وزير الإسكان أن حل مشكلتها يحتاج إلى إنفاق 16 مليار جنيه مصري، والسكك الحديدية العريقة ولكن المتهالكة يحتاج إصلاحها أكثر.. الخ.
ولتقدير حجم الأموال التي تم إنفاقها على البنية الأساسية تمهيدا لوصول الاستثمارات الأجنبية فإنه ينبغي أن نعرف أن حصيلة بيع عدد هائل من وحدات القطاع العام طيلة 15 عاما هي 23 مليار جنيه تم توجيهها للإنفاق الجاري.
ولمزيد من الوضوح فإن الدين المحلي في يونيو 2006 وصل إلى 511 مليار جنيه بزيادة 81 مليارا عن العام السابق، وتضخم الدين الخارجي الذي وصل إلى 36 مليار دولار أي أكثر من 200 مليار جنيه، أي أن إجمالي الديون يزيد عن 700 مليار جنيه متجاوزة الناتج المحلي الإجمالي بنحو20%، علما بأن إجمالي الديون لايجب أن تتجاوز 80% من الناتج المحلي الإجمالي وهو ما يبين الخطر الهائل .إلى جانب أن الإسراف في الإنفاق الذي توصل إليه الجهاز المركزي للمحاسبات في العام نفسه اقترب من 11 مليار جنيه.
لكن الصورة تكتمل إذا علمنا أن كل الاستثمارات الأجنبية والعربية في مصر لا تتجاوز 25 مليار دولار حتى العام الماضي، أي أن ما تم إنفاقه على البنية الأساسية على مدى ثلث قرن لجذب الاستثمارات أكبر بكثير من قيمة الاستثمارات التي جاءتنا.
وهكذا تتضح المفارقة الخطيرة إذا ما وضعنا: قيمة الدين الإجمالي، الناتج المحلي الإجمالي، الإنفاق على البنية الأساسية، الاستثمارات العربية والأجنبية وجها لوجه لمقارنة لا تحتاج إلى جهد لتبين حجم الكارثة.
لكن المفارقة الأكثر دلالة تأتى بمقارنة كل ما سبق مع حجم الدين الخارجي عام 1970. والذي لم يتجاوز 2ر1 مليار دولار (أي مليار واحد ومائتي مليون دولار) أغلبه للاتحاد السوفييتي مقابل عملية التصنيع الهائلة التي وصلت إلى 1000 مصنع كبير في صناعات شديدة التنوع أي بناء صرح صناعي هائل وسد عال عملاق وتوسع زراعي ملموس وتنمية اجتماعية واسعة النطاق، وفوق كل ذلك تسليح الجيش منذ عام 1954 ثم إعادة تسليحه بعد عدوان 1956 ثم بعد 1967 وخلال حرب الاستنزاف وحرب أكتوبر1973. والجانب الأهم في هذه المفارقة أن الاستثمارات الأجنبية التي يفاخرون بها لم تضف شيئا يذكر للأصول الإنتاجية، وان ما وجه منها للصناعة مثلا أتى للاستحواذ على صناعات قائمة جرى تقليصها أو إزالتها تماماً.
إن الاستخلاص النهائي الذي أذكر به هو أن البرجوازية المصرية عاجزة تماما وغير راغبة للنهوض بأعباء تنمية البلاد لا في إطار مستقل ولا حتى في إطار تابع. إن كل ما تبذله من جهد هو امتصاص ثروات البلاد وتهريبها للخارج، وتؤكد تقديرات جادة أن ما تم نزحه للخارج يزيد عن 200 مليار دولار.
كما أذكر بأن رأس المال الأجنبي ليس مستعداً لأي استثمارات ذات قيمة تضيف للأصول الإنتاجية.
لذلك فإن محاولة بيع الأوهام للناس عن الاستثمارات الأجنبية وفرص العمل للشباب الذين تطحنهم البطالة هي من قبيل النصب والاحتيال.
لقد تأكد أن طريق المشروع الرأسمالي مسدود في مصر بشكل كامل، ولا يمكن تجاوز الأزمة الشاملة التي تعيشها البلاد بنفس السياسات المتبعة لأنها وهم أفضى إلى الخراب.